"فتنة" الساعة
يُحكى أن جزءاً من الشعب استنفر استنفاراً عظيماً، وانقسم إلى فريقين متخاصمين يردحان لبعضهما بعضا بسبب ساعة.
الساعة المقصودة ليست تلك التي يتم ارتداؤها في اليد أو تعلق على الحائط. الساعة المقصودة هي التوقيت. 60 دقيقة. "تمنّى" رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه برّي على رئيس الحكومة نجيب ميقاتي تأخير الانتقال من التوقيت الشتوي إلى الصيفي حتى انتهاء شهر رمضان. ومن مثله لا يُردّ له طلب من ميقاتي، فكان أن نفّذ فوراً قبل أن تبرز اعتراضاتٌ سرعان ما اتخذت طابعاً طائفياً، وكادت تتحول إلى فتنة بين مسلمين ومسيحيين، مع بروز أصواتِ متطرّفة من الجهتين، ودعواتٍ إلى قطع الطرقات قبل التراجع عن القرار بعد أيام.
قد يعتقد بعضهم أن اللبنانيين يقدّسون الوقت. دوائرهم الحكومية تفتح أبوابها من دون أي تأخير وتغلق في الموعد. الموظفون لا يتأخّرون ثانية واحدة عن دواماتهم. دورة العمل في البلاد منتظمة إلى أبعد حد ممكن، وأن "الجو بديع والدنيا ربيع"، إلى أن جاء قرار تأجيل العمل بالتوقيت الصيفي ليقلب الدنيا رأساً على عقب، ويُخرِج اللبنانيين من الجنّة التي كانوا يعيشون فيها. لكن بين الواقع والخيال في لبنان هوّة شاسعة جداً. البلد عملياً في حالة انهيار مكتملة الأركان. الصمود فيه ليس للأقوى، بل لمن يملك تلك الحفنة من الدولارات الطازجة، لأنها سبيله الوحيد للحياة، ولن نقول بشكل طبيعي، لأن هذه الكلمة يفترض أن تشطب من قاموس اللبنانيين، أقله لسنواتٍ مقبلةٍ عديدة.
الأمر الوحيد الذي لا يضطرّ المقيم في لبنان إلى دفع فاتورته حتى اللحظة هو الهواء حصراً. يتّخذ مسار التضخّم والغلاء في لبنان شعاراً ثابتاً له من نحو أربع سنوات يتمثل في "هل من مزيد؟". كلما ظنّ الناس أن القفزات في الأسعار قد هدأت تأتيهم الضربة من حيث لا يحتسبون، ويزداد الوضع سوءاً يومياً مع تلاشي آخر الخدمات المقدّمة من الدولة.
في كل حي يمكن سماع قصص عن أشخاصٍ توفوا لأنهم لم يملكوا ثمن علبة الدواء التي يفترض تناولها، وعجزوا عن طلب المساعدة. كما يمكن الإنصات لحكايات مرضى توقّفوا عن أخذ علاجاتهم لمرض السرطان، لأن توفير ثمن العلاج لم يعد خياراً ممكناً، وتحوّل الموت إلى خيار وحيد لهم، وبات "الضمان الاجتماعي" الذي كان يغطّي جزءاً رئيسياً من كلفة الاستشفاء للمنتسبين إليه بلا أي منفعة، فلا تقديماتُه تقارب الواقع الحقيقي للأسعار، ولا المستشفيات تعترف بوجوده.
أما التعليم الرسمي فقد انهار بدوره. خاض الأساتذة منذ بداية العام الدراسي إضراباً تلو الآخر، احتجاجاً على انهيار رواتبهم وتردّي أوضاعهم، قبل أن يعودوا، في الآونة الأخيرة، إلى التدريس على مضض، لكن من دون أي خطةٍ تضمن تعويض الطلاب بعد ذهاب نحو نصف العام الدراسي. وجاءت الأزمة الاقتصادية بعد كورونا لتوجّه ضربة قاصمة للقطاع التعليمي الرسمي الذي يشكل السبيل الوحيد لأبناء العائلات الفقيرة لتلقي التعليم. وليس مبالغة القول إن هناك من وصل اليوم إلى الصف الرابع من دون أن يجيد قراءة أو كتابة اسمه، مع ما يعنيه ذلك من تداعياتٍ على جيل واسع من الأطفال اليوم.
وجديد مظاهر الانهيار أخيرا قطاع الاتصالات والإنترنت، جرّاء اضراب موظّفي "أوجيرو" المسؤولية عن توفير هذه الخدمات، وتعطل السنترالات تباعاً، ما يهدّد بتوقفها جميعاً عن العمل إذا لم يجر التوصل إلى تسوية.
المؤسف أن كل هذه الأزمات لم تشكل طوال الأعوام الماضية سببا كافياً للبنانيين ليس للوحدة، لأن هذا أمر من الخطأ اعتقاد أنه ممكن في هذا البلد، بل أقلّه للتوافق على مطالب بعينها لتحسين ظروف حياتهم المزرية. وحدها الـ60 دقيقة كانت كفيلةً بشحن عصبيتهم وتخندقهم كل خلف زعيمه ووجهة نظره، رغم أنهم يدركون جيداً أن من يصطفّون خلفهم هم السبب في كل الخراب الذي يعيشون فيه اليوم.