"فتح" ولجنة غزّة... مناورات وحسابات قصيرة النظر

17 ديسمبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

بعد أن توافقت كلّ من حركتي "حماس" و"فتح" على تشكيل لجنة الإسناد المجتمعي لإدارة شئون غزّة، في اجتماع بالقاهرة، أخيراً، أبلغت "فتح" المسؤولين المصريين رفضها المقترح الذي استغرق شهرين من المشاورات، أظهرت فيها وفودها خلال اجتماعات متتالية رغبة في الدفع بالمقترح للتنفيذ، ورأت عناصر منها أن المقترح يسدّ ذرائع إسرائيل المرتبطة بإبعاد "حماس" عن حكم القطاع، ما يساهم في وقف العدوان. وفى اجتماع في أول الشهر الجاري (ديسمبر/ كانون الأول)، كانت "فتح" قد توصّلت إلى توافق، وتنتظر قراراً نهائياً من الرئيس محمود عبّاس، الذي سبق وناقش مع القاهرة قبل شهر مستقبل قطاع غزّة، ومعالجة آثار العدوان.
ويأتي موقف رام الله من إعلان "حماس" (5 ديسمبر) موافقتها على لجنة الإسناد المجتمعي، وتأكيد موقفها في اجتماع القاهرة (8 ديسمبر)، غير متناقض وحسب، بل مفاجئاً أيضاً، بما يشير إلى مناورة للسلطة، وأن الرفض كان مبيّتاً، ولم ترغب في إعلانه أثناء اجتماعات سابقة خلال شهري نوفمبر/ تشرين الثاني وأكتوبر/ تشرين الأول، تحسّباً لاحتمال رفض حركة حماس أو تحفظها عليه، ما يعفيها حينها أن تظهر في موضع من يعرقل العمل المشترك، كما يجيء موقفها، بعد إعلان عن توافق وانتظار قرار رام الله النهائي، وقبلها، إبداء ترحيب بالمقترح في اجتماعات متتالية لوفودها مع حركة حماس والوسيط المصري، وسير المناقشات بشأن مهامّ اللجنة في الإغاثة والإعمار وتقديم الخدمات، بما يخفّف من قسوة الظروف التي يعانيها سكّان القطاع.

يتصوّر قادة "فتح" أن صياغة موازين القوّة يرتبط بالمسمّيات والدور من دون أطر فاعلة

مصرياً، حرصت صياغة مقترح اللجنة على طمأنة "فتح" عبر تأكيد، أولاً تبعية اللجنة للسلطة في رام الله، وأنها تمارس عملها بالتنسيق والتعاون مع الحكومة الفلسطينية. وثانياً، تشكيلها من شخصيات مستقلّة (تكنوقراط) لديها خبرات في مجالات الصحّة والتعليم، بما يعنى إبعاد الطابع الفصائلي عنها لتجاوز خلافاتٍ سياسية قد تنشأ. وثالثاً أن مرجعيتها قوانين ولوائح السلطة. وانتهاءً، بخطوات إعلانها بمرسوم رئاسي، وبدعوة محمود عبّاس باقي القوى الوطنية إلى اجتماع في القاهرة لتشكيلها. وارتباطاً بهذا التصوّر، انخرطت "حماس" في مناقشات مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ومع شخصيات فلسطينية، ضمن حشد التأييد للجنة وتسيير تنفيذ مهامها، وإيجاد آلية تنسيق محلّ اتفاق تتعامل مع الأطراف كافّة، في ملفّات، أهمها المساعدات وإعادة الإعمار، وكلاهما يحتاج استجابات إقليمية ودولية، وتمويل لا يمكن توفيره من دون وجود رؤية لمستقبل القطاع، وحالة توافق بين القوى الفلسطينية.
وتسوّغ "فتح" رفضها بأنه جاء نتاج "نقاشات عميقة" بين أعضاء اللجنة التنفيذية، والغريب، والمخالف للواقع، أن يقول القيادي الفتحاوي، جبريل الرجوب وغيره، إن المقترح مقدّمة وتكريس للانقسام، رغم ما جاء في نصوصه، من تأكيد وحدة الأراضي الفلسطينية، بما يحيل على القول إنه مختبر للعمل المشترك، ووحدة الضفة وغزّة، وإطار جامع لمعالجة آثار الحرب، يدمج اللجنة في الحكومة الحالية، ويربطها بها، ومفترض أن يكون ذلك محلّ ترحيب ونقاش إذا ما كانت هناك مخاوف ونقاط خلاف، وخطوة في مواجهة انقسام قائم منذ 2007، فصلَ السلطة عن القطاع سياسياً وإدارياً، ولم تشأ السلطة (رغم مطالبات فلسطينية وجهود إقليمية) رأب الصدع عبر حكومة وحدة وطنية، حتى بعد العدوان، ومروراً بتوقيع اتفاق بكّين، الذى تعهّدت بموجبه السلطة بإنهاء الانقسام.
واليوم، لم تقدّم "فتح"، مع رفضها المفاجئ مقترح اللجنة، إيضاحات، واكتفت أصوات من الحركة بإذاعة أن هناك شروطاً لـ"حماس" في ملفّات أمنية ومالية لا يمكن قبولها، لكنّ المحصلة العملية أنها تريد التمترس عند حالة التكلّس المُصابة بها، من دون حراك، ولا مشاركة ولا انتخابات ولا توافق، في حالة عِند ونظرة قاصرة، تريد البقاء في المشهد منفردة، من دون اتخاذ خطوة إلى الأمام بشأن غزّة ومستقبلها، ومن دون أن تقدم بديلها، ما يدلّ على رغبة في سيطرة كاملة، وأن تحلّ حكومة محمد مصطفى في القطاع، وتفاوض "فتح" إسرائيل، وكأنّ ذلك قابلٌ للتحقق كما في النموذج اللبناني. ويتصوّر قادة "فتح" أن صياغة موازين القوّة يرتبط بالمسمّيات والدور من دون أطر فاعلة، وتحتفل بذكرى تأسيسها، وتتغنّى برموزها لكنها تنسى نهجهم والطريق الذى سلكوه، وتتجاهل سنوات فساد وترهّل وشيخوخة تنظيمية، ودور في التعاون والتنسيق الأمني، وحملات إعلامية، مع هجماتٍ ضدّ أفراد من الفصائل والحركات السياسية في الضفة، تشمل مداهمة المنازل والقبض عليهم بدعوى ضبط الأمن، وكأن وسيلتها الوحيدة القمع، وهذا يؤشّر على مشهد خطر يزيد الساحة الفلسطينية تعقيداً ويؤزّمها، وليس ما يجرى في جنين من تبادل لإطلاق النار بين عناصر من المقاومة والأجهزة الأمنية حادثاً عابراً، بل هو قابل للتكرار، وهو نتاج النهج المكمّل لمشهد الاقتحامات الإسرائيلية، واحتجاز أسرى محرّرين، في تصرّفٍ معيب، يزيد التفسّخ في النسيج الوطني الفلسطيني، ويعيد طرح الأسئلة عن بوصلة السلطة في رام الله ووظيفتها، وأيضاً، وضع (وموقف) منظمّة التحرير، التي تقول "فتح" إنها الممثّل الوحيد الشرعي للشعب الفلسطيني.

إذا استمرّت "فتح" في رفضها التوافق حول آلية لإدارة القطاع تساهم في الإغاثة وتمهّد لوضع انتقالي، سيدفع سكّان غزّة الثمن

ويأتي موقف السلطة من رفض أي خطوة لترتيب الوضع، تمهيداً لإنهاء العدوان، ضمن إهدار الوقت والفرص، لمعالجة أزمة القطاع الكارثية، من حصار مشدّد، وتدمير البنية التحتية، ولا ينطلي على أحدٍ في هذا السياق، لا جمهور "فتح" ولا غيره، تراجع "فتح" بوصفه موقفاً وطنياً ضدّ ضغوط، وتكرار القول وتعميم "إننا لسنا ورقة في يد أحد، ولن نقبل ضغوط أحد، ولن ننفّذ مصالح أحد"، ولا تجد شعارات السلطة عن اختيار طريق المقاومة السلمية أسانيد، في ظلّ ندرة فعالياتها ضدّ العدوان، كما أن رفضها مقترح اللجنة جاء بالتزامن مع عودة المفاوضات، وتنشيط دور الوساطة، وفرص هدنة شهرين، وانسحاب تدريجي لقوات الاحتلال، تمهيداً لوقف إطلاق النار بشكل كامل. وارتباطاً بذلك، كان ضمن بنود إنشاء اللجنة، تولّى السلطة مسؤولية معبر رفح حسب اتفاق المعابر 2005، ما ييسّر مهام الإغاثة المعطّلة بالحصار والعدوان، وحالة الفوضى، وافتقاد الأمن، والذى أدّى إلى نهب 90% من المساعدات التي دخلت من معبر كرم أبو سالم خلال الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، كما تقول "أونروا"، في تقرير حديث (5 ديسمبر)، ومعها أوقفت الوكالة عملها من المعبر مؤقتاً، وما يزيد الوضع الإنساني صعوبة، تقييد الاحتلال باقي المعابر، ما قلّص وصول البضائع، وتضاعفت أسعار السلع الغذائية إن وُجدت، غير منع وصول المساعدات إلى سكّان الشمال المحاصرين منذ شهرين.
إذا استمرّت "فتح" في رفضها التوافق بشأن آلية لإدارة قطاع غزّة تساهم في الإغاثة وتمهد لوضع انتقالي، سيدفع سكّان غزّة الثمن، وتتحرّك القوى الفاعلة بمفردها للبحث عن حلول نتاج استمرار الانقسام. لذا، السلطة مطالبة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بأن يستجيب تحرّكها للواقع الحالي. وإذا كانت حركة حماس أدركت أن حكمها القطاع غير ممكن، وتُراجع نفسها، فإن على "فتح" أن تبني على هذه الخطوة، ولا تضيف عقبات أمام ترتيب الصفّ الفلسطيني في ظلّ العدوان على غزّة، والهجمات التي تتوسّع في الضفة، ورغبة الاحتلال ضمّها، أو تقليص مساحتها بتوسيع الاستيطان، ما يعني إنهاء وجود السلطة ذاتها وتقليص حدود الدولة، وخطوة مضافة إلى تصفية القضية الفلسطينية من الجغرافيا إلى الهياكل السياسية. وما زالت اللجنة حلّاً عاجلاً، إطاراً ممكناً، لتسيير أعمال الإغاثة، وسنداً في التفاوض، ولتعطيل مشروعات يراد فرضها في القطاع لا تمثّل مصالح الفلسطينيين إجمالاً.

D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".