فارغاس يوسّا الذي استضافه ماكرون
ضمّت "الأكاديمية الفرنسية"، أخيرا، الروائي البيروفي ماريو فارغاس يوسّا (87 عاما)، حائز جائزة نوبل للآداب (2010) عضوا منتخبا فيها، فصار في "قائمة الخالدين" فيها، الأمر الذي أثار استهجانا، مبرّرا ربما، فالكاتب الشهير لم يكتُب شيئا بالفرنسية، وإن يُتقِن التحدّث بها، وهو الذي أقام بعض الوقت في باريس، وما انفكّ يتكلّم عن شديد إعجابه بالأدب الفرنسي، على ما فعل في 12 الشهر الماضي (فبراير/ شباط) في كلمته التي ألقاها، بالفرنسية، في الأكاديمية، في حفل دخوله القائمة العريقة. وقال فيها إنه يعدّ فرنسا "موطنه الأدبي"، وإن "الأدب الفرنسي كان الأفضل، ولا يزال". ولسائلٍ أن يسأل هنا ما إذا كان صاحب "حفلة التيس" تَزيّد في قولِه هذا بفائضٍ من المجاملة لمضيفيه، وكذا في اعتباره أن أحدا لم يذهب أبعد من الكتّاب الفرنسيين في السعي وراء "الكيان السرّي الذي يجري في عروق الحياة، الأدب الذي هو الحياة الوهمية التي هي الحياة الحقيقية بالنسبة لكثيرين"، أم أنه كان صادقا مع نفسِه، ولم ينطِق بغير قناعاتِه، ومنها، أيضا، أن الأدب الفرنسي هو الأكثر جرأةً والأكثر حرية.
الباعثُ على سؤالٍ كهذا، والذي يكاد يخدش في شخص الكاتب العالمي، صاحب الروايات البديعة حقّا، أنه كثيرا ما فعلَها، في مبالغاتٍ جهر بها، ثم عدَل عنها، في مواقف أشهرَها ثم تخلّى عنها، ما قد يعني أنه قد لا يُؤخَذ على محمل الجدّ في غير شأنٍ وشأن، وهو الموصوفُ بأنه شديد اليمينيّة، وصِفتُه هذه هي التي جعلته، على الأغلب، يُسارِع إلى اتهام "دكتاتورية الصين" بالمسؤولية عن انتشار وباء كورونا في العالم، في مقالِه نصف الشهري في صحيفة الباييس الإسبانية في مارس/ آذار 2020، بعد أقلّ من ثلاثة أسابيع على ظهور الوباء في خارج الصين. والبادي في أمر الرجل أنه كثيرا ما يراقب العالَم من مخيّلته الرحبة، من صفته أديبا وحسب، كاتبَ رواية، فيقع في بؤس تقديراتِه أو في أحسنها، ثم يتراجع عن هذه أو تلك أو عن كليهما. وعندما يأتي في كلمته أمام الأكاديمية على الحرب في أوكرانيا، يشطَح إلى ما لا يستقيم بالضرورة مع العقل والحقائق المعلومة. يقول "كما في الروايات، الضعفاء هنا يهزمون الأقوياء، لأن عدالة قضيّتهم أقوى بكثير من عدالة أولئك الذين يزعمون القوة".
استقبل الرئيس الفرنسي ماكرون الأديبَ الذي كان صديقا في يوم بعيد لكاسترو، قبل أن ينعطف إلى المواظبة على مهاجمته، الكاتب الذي لَكَم صديقه القديم، ماركيز، استقبلَه على عشاءٍ في الإليزيه مصحوبا مع ملك إسبانيا السابق، خوان كارلوس، القادم من مقامه في أبوظبي. لم يرشَح شيءٌ عمّ تداول فيه الثلاثة، وضيوف آخرون ربما في العشاء (المغلق؟) الذي لم تتسرّب منه صور نلحظ فيها الأديب الضيف والمضيف. العشاء الذي بدا طقسا تقليديّا مع مستجدٍّ في "الخالدين" في الأكاديمية الفرنسية. اكترثت وسائل الإعلام الفرنسية (والإسبانية) بحضور الملك المتنحّي عن عرشِه، وتحفّ به مسموعاتٌ عن فسادٍ ومسلكياتٍ سيئة، غير أن الذي ذاع، شيئا ما، أن لخوان كارلوس مكانةً خاصةً لدى ماكرون، الرئيس الشديد الإعجاب "بالأدباء الذين كان يحلُم بأن يكون واحدا منهم".
يحقّ لكاتب "المدينة والكلاب" أن يزهو بالحفاوة الثقيلة التي حظي بها في باريس، في تتويجِه بين "الخالدين"، وفي استضافته في العشاء الرئاسي، وهو الذي أحرز قبل "نوبل" عدّة جوائز مرموقة، في إسبانيا وغيرها، منها جائزتا سيرفانتيس (1994) وأمير أستورياس للآداب (1986). ويحقّ له أن نمحضَه التقدير على دفوعاته عن حقوق الإنسان ومناوأته الدكتاتوريات. ولا تضيرُه انتقالتُه من اليسار المتطرّف في شبابه إلى تطرّفه في ليبراليّته التي صار يُقيم عليها، ليس لصحّةٍ في قولٍ فرنسيٍّ ذائع إن البُلهاء وحدَهم لا يغيّرون أفكارهم، وإنما لأن التبدّل والتغيّر من دلائل قلقٍ وتقليبٍ للفكر. غير أن في بعض تقلّبات ماريو فارغاس يوسّا، الذي خسر قبل أزيد من 30 عاما في انتخاباتٍ رئاسيةٍ ترشّح فيها في بلده (البيرو)، ما لا يؤشّر إلى اتّزانٍ كافٍ وظاهر في شخصه. يعنينا منه أنه أفرط في مديح إسرائيل، وكان صديقا لها، فمنحتْه جائزة القدس، ودأب على الدفاع عنها، ثم أعلن، في غضون عدوانٍ على قطاع غزة، أنه يخجل من صداقته لها، ثم عاد يكتًب أنها بلد محترم. ويعنينا أيضا أنه عبر إلى اللغة العربية في ترجماتٍ عدة رواياتٍ له صيّرتنا نحبّ صنيعه الأدبي.