فاجعة طنجة وكلفـة الفساد
لا يزال الرأي العام المغربي يعيش على وقع الفاجعة التي هزّت مدينة طنجة الاثنين الماضي، بعد وفاة 28 شخصا قضوا غرقـا بعد أن حاصرتهم السيول في وحدة صناعية أرضية غير مرخّص لها. ويُعيد هذا الحادث المأساوي إلى الواجهة أسئلة كثيرة بشأن المسألة الاجتماعية، ومكافحة الفساد، وربط المسؤولية بالمحاسبة التي تعد أحد العناوين المؤسسة للعرض السياسي الذي قدمته السلطة في 2011.
ولعل ما يلفت الانتباه في هذه الفاجعة وصف السلطات المحلية الوحدةَ الصناعية المعنية بـ''السرية''، ما اعتبره قطاع عريض من الرأي العام تنصّلا من المسؤولية القانونية والأخلاقية، وهروبا إلى الأمام، وإقرارا بسطوة الفساد وما يرتبط به من تحالف واصطفاف بين السلطة والمال، فلا يُعقل أن لا يصل إلى علم هذه السلطات وجود هذه الوحدة الصناعية التي تستقبل يوميا، وبشكل علني، عشرات العمال والعاملات الذين فرضت عليهم ظروفُ الحياة القاسية امتهان عمل يفتقد أدنى شروط السلامة الصحية والاجتماعية، فهذه الوحدة وإن كانت لا تمتلك ترخيصا قانونيا لمزاولة عملها، إلا أن ذلك لا يعني أن نشاطها كان سرّيا. وإذا أضفنا إلى ذلك أن وحدات ''سرية'' مشابهة تشتغل تحت طلب شركات نسيج كبرى مرخّص لها، ضمن استراتيجية الأخيرة لتخفيض تكاليف الإنتاج، فإن الصورة تغدو أكثر اكتمالا ودلالة.
كشفت فاجعة طنجة إفلاسَ النموذج التنموي، وعجزَ السلطة والحكومة والنخب والمؤسسات الوسيطة عن إيجاد حلول وبدائل لمواجهة الاحتقان الاجتماعي المتزايد. كما كشفت أهمية القطاع غير المهيكل في معادلة الاستقرار الاجتماعي والأهلي في المغرب، بما يدرّه في الدورة الاقتصادية من موارد، وبما يعنيه ذلك، أيضا، من غياب القانون والشفافية والمساءلة عن قنوات هذه الدورة. وعلى الرغم من أن هذا القطاع أضحى يشكل (حسب بيانات رسمية) حوالي 30% من الناتج الداخلي الخام، إلا أنه لا يتوازى مع سياساتٍ عموميةٍ تعمل على إدماجه في الدورة الاقتصادية، من خلال إصلاحات اجتماعية تنصبّ أساسا على التعليم، والتشغيل، والقضاء، والسياسة الضريبية، ومكافحة الفساد. وفي غياب هذه السياسات، فإن هذا القطاع يستمر في تكبيد خزينة الدولة خسائر مالية كبيرة بسبب التهرّب الضريبي واستغلال اليد العاملة.
ليست الوحدة الصناعية التي كانت مسرحا لفاجعة طنجة إلا عينة من آلاف الوحدات ''السرية'' في معظم أنحاء البلاد، في انتهاك صارخ للقانون. فأصحابُها لا يصرّحون، عادة، بالعمال الذين يشغّلونهم لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ولا بالأرباح التي يجنونها، كما لا يحترمون مقتضيات قانون الشغل، هذا علاوة على افتقاد هذه الوحدات معايير السلامة والوقاية الصحية.
مقاومة المخططات الرامية إلى إعادة هيكلة هذه ''الوحدات الصناعية السرية'' وإدماج أنشطتها في الدورة الاقتصادية، لا يمكن أن يُفسّر إلا بوجود مواقع داخل الدولة والمجتمع تستفيد من هذا الوضع، وتستميت في تغذيته، والحفاظِ على ما يدرّه من مكاسب مادية وسياسية لا حصر لها. وقد كان دالا ما أورده التقرير السنوي للهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها (هيئة رسمية)، أخيرا، حين أكد ''أن جرائم الفساد ذات العائدات الكبيرة تتسم بالتعقيد، وتَلاقي مصلحة الراشي والمرتشي، ما يجعل الكشف عنها أكثر صعوبة، على عكس جرائم الرشوة''. ويعكس إقرار رسمي كهذا بالبنية المركبة للفساد في المغرب، وصعوبةِ اجتثاثها، تغولَ القوى التي تتغذّى عليه، وعدمَ اكتراثها لما تسوقه الحكومة بشأن مكافحة الفساد وربط المسؤولية بالمحاسبة وعدم الإفلات من العقاب.
من المرجح أن تسقط رؤوس كثيرة بعد أن تتشعب التحقيقات التي تباشرها الجهات المختصة في فاجعة طنجة، لكنه سقوط قد لا يعني الكثير، في ظل عجز الحكومة عن وضع سياسة صارمة بشأن مكافحة الفساد. ولعل ما يبعث على الحزن والغضب أن كلفة الفساد في المغرب لم تعد تقتصر، فقط، على التأخر في المؤشّرات الدولية للتنمية، بل صارت تتعدّاه نحو إزهاق أرواح الأبرياء في سعيهم خلف لقمة العيش المرّة.