غوتيريس والمرأة واللامساواة بين الجنسين
احتفت أوساط عربية عديدة بتعيين الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، سيما بحّوث مديرة تنفيذية لهيئة الأمم المتحدة للمرأة، المعنيّة بالمساواة بين الجنسين وتمكين المرأة. وصفها غوتيريس بـ "البطلة في مجال الدفاع عن حقوق النساء والفتيات". لا تتفق بعض المنظمات النسوية الوازنة مع هذا التوصيف، لكن ذلك لا يمنع أن مسيرة هذه الدبلوماسية الأردنية جديرة بالاحترام والتقدير. وبهذا التعيين، يستحق الأمين العام ذاته لقب "بطل" المرأة، بما في ذلك المرأة العربية، إذ بلغ تمثيل الأخيرة في الوظائف الأممية الرفيعة مستوىً غير مسبوق.
أصبح للمرأة العربية حضور ملحوظ في المنظمة الدولية في عهد كوفي عنان، منذ تولّي السّعودية ثريا عبيد إدارة صندوق الأمم المتحدة للسكان في عام 2001، لتصبح بذلك أول امرأة عربية ترأس وكالة أممية. وفي العام ذاته، عيّن عنان ميرفت التلاوي، من مصر، مديرة للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا). وخلفتها الأردنية ريما خلف، وتميّزت بجرأة موقفها المشرّف، إذ رمت استقالتها في وجه غوتيريس في ربيع 2017، ردّاً على ضغوط مارسها عليها كي تسحب أول تقرير دولي يوثّق جرائم إسرائيل ويصف الأخيرة بنظام فصل عنصري.
على الرغم من سُلطوية موقفه تجاه ريما خلف، مضى غوتيريس في استنكاره "تهميش النساء بشكل منظّم وتجاهلهن وإسكات صوتهن في عالم يخضع لسيطرة الذكور". منذ توليه رئاسة المنظمة الدولية، ورئيس الوزراء البرتغالي الأسبق يردّد في المحافل الدولية "أنا نسوي (feminist) وأفتخر". ويعزو غوتيريس مشكلات العالم الحالية، من حروبٍ لا نهاية لها إلى كارثة التغيّر المناخي، مروراً بجائحة كورونا، إلى هيمنة النظام الذّكوري (البطريركي). ففي خطاب بعنوان "المرأة والسلطة"، ألقاه في جامعة نيو سكول في نيويورك، يوم 27 فبراير/ شباط 2020، جزم الأمين العام بأن النساء في كل مكان أسوأ حالاً من الرجال، لا لشيء سوى لأنهن نساء، يعانين "ظلماً ساحقاً"، من تمييزٍ وعنفٍ وكراهيةٍ في جميع أنحاء العالم، وحذّر من أن العنف ضد المرأة، بما في ذلك قتل الإناث (féminicides) قد بلغ مستوياتٍ تشبه زحف الوباء.
يعزو غوتيريس مشكلات العالم الحالية، من حروبٍ لا نهاية لها إلى كارثة التغيّر المناخي، مروراً بجائحة كورونا، إلى هيمنة النظام الذّكوري
وبعد أن رسّخ الصورة النمطية للمرأة الضحية، دعا إلى تقويم اختلالات علاقات القوة بين الجنسين التي تَحرِم المرأة من تصدّر الحكومات ومجالس الشركات، وحثّ على مشاركتها السلطة على قدم المساواة، معتبراً الناشطتين نادية مراد وملالا يوسفزاي ضحيتي التطرّف الإسلامي، من "نماذج قيادة جديدة". ولو كان يؤمن أكثر بقدرات المرأة، العربية والمسلمة تحديداً، لاستحضر نجاح الشابّة السعودية سارة السحيمي التي تقود سوق الأسهم السعودي، أو المعمارية العراقية الراحلة زها حديد، أو الفلسطينية سها القيشاوي، كبيرة مهندسي البرمجيات في مشروع بناء مركبة فضائية تحمل رواد الفضاء إلى كوكب المرّيخ، وما أدراك ما المرّيخ.
يؤمن الأمين العام بأن تحقيق المساواة بين الجنسين أمرٌ لا مناصّ منه إن أراد العالم التغلّب على حالات الطوارئ المناخية، من دون أن يشرح كيف يتأتّى ذلك، ثم يُحذّر من انتكاسة حقوق المرأة إن لم تلعب الأخيرة دوراً لا يقلّ مساواةً عن الرّجل في تصميم التّقنيات الرقمية، وكأنه يوحي بأن الرّجل يمنعها من الابتكار العلمي. كما ينتقد مفاوضات السلام التي ما تزال تستثني النساء، من دون أن ينتبه إلى أن خطاب الضحية الذي يستثني دور المرأة في الحروب يساهم، إلى حدّ ما، في استبعادها من عمليات السلام.
تعجّ خطابات غوتيريس عن المرأة بالتعميم والمبالغة وتستدل بدراسات ضعيفة. يتخبّط الأمين العام في التناقض الجوهري الذي يحكم بعض الخطابات النسوية التي لم تحسم أمرها بعد، ولم تقرّر إن كانت المرأة قويّة، (ذات كفاءات وقدرات، بما في ذلك على ممارسة العنف لحماية نفسها)، أم مستضعفةً، وتحتاج إلى الحماية والرفع من قدراتها. تميل خطابات غوتيريس أكثر إلى وضع المرأة في خانة الفئات الهشّة، إلى جانب الأطفال والمعاقين والمسنين، وهي بذلك تنسجم مع سياسات "التمكين" الأممية، بما في ذلك من إقرار هذه السياسات ضمناً بعدم إيمانها بأن المرأة تمتلك القوّة من تلقاء ذاتها.
لا يأبه غوتيريس بهذه المفارقات، ويُؤمن بأن المساواة بين الجنسين أنجع "وسيلة لإعادة تعريف السلطة وتحويلها"، لكنه لا يحدّد مفهوم السلطة، وديناميّتها وهياكلها. وتعهّد، منذ تقلّد مهامه الأممية، برفع تمثيل المرأة في المناصب العليا، على الأقل داخل المنظمة، وفي حدود سلطته. ومنذ السنة الماضية، يفتخر بأن تعييناته قد حقّقت المساواة بين الجنسين في صفوف القيادة العليا للمنظمة، بتعيين 90 امرأة، مقابل 90 رجلاً. ويخوّل له منصبه تعيين وكلاء الأمين العام والأمناء العامين المساعدين، والمديرين والمستشارين بالأمانة العامة، أما حين يتعلّق الأمر بالعمليات التي يتم إنشاؤها بتفويضٍ من مجلس الأمن، فإن تعيينه رؤساء بعثات حفظ السلام، والمبعوثين الخاصين والمستشارين، لا يتم إلا بموافقة مجلس الأمن.
القسمة الجندرية المتساوية، على عكس ما توحي به خطابات غوتيريس النضالية، ليست عادلةً بين الجنسين
انعكس تساوي القسمة الجندرية على المرأة العربية، وارتفع مستوى تمثيلها في قمة الهرم الوظيفي على نحو غير مسبوق. بالإضافة إلى ترؤس سيما بحّوث هيئة المرأة، عيّن غوتيريس المغربية، نجاة معلّا مجيد، ممثلة خاصّة له، ومعنيةً بالعنف ضد الأطفال. ثم عيّن المصرية غادة والي وكيلة له ومديرة مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة، واختار الكويتية رولا عبد الله دشتي وكيلة له وأمينة تنفيذية للجنة إسكوا. وعلى مستوى النائبات، حظيت الأردنية، ندى الناشف، بمنصب نائبة المفوّضة السامية لحقوق الإنسان، وتقلّدت البحرينية خولة مطر منصب نائبة مبعوثه الخاص لسورية، كما عيّن غوتيريس السودانية حنان سليمان مساعدة له ونائبة المديرة التنفيذية لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف). وفي المجال الإنساني أيضاً، أوكل للمغربية نجاة رشدي مهمّة نائبة المنسق الخاص للأمم المتحدة في لبنان، ومنسقة الشؤون الإنسانية.
بفضل هذه التعيينات، أصبحت أربع نساء عربيات (بحوث ومعلّا ووالي ودشتي) يتمتعن بعضوية كاملة في "فريق الإدارة العليا" للمنظمة الأممية. وانتقلت بذلك كلّ من بحّوث ودشتي إلى قمة المجموعات التنفيذية، بانضمامهما إلى "مجلس الرؤساء التنفيذيين لمنظومة الأمم المتحدة المعني بالتنسيق"، الذي يجمع 31 رئيساً تنفيذياً لجميع صناديق الأمم المتحدة وبرامجها ووكالاتها المتخصصة، وهو أعلى جهاز إداري على مستوى المنظومة الأممية العالمية. وصول المرأة العربية إلى مراكز الإدارة العليا في الأمم المتحدة مكسب كبير للمنظمة وللمنطقة، ولكنه لا يحقق بالضرورة المساواة بين الجنسين التي يدعو إليها غوتيريس، بل لا تتحقق المساواة حتى في صفوف الجنس ذاته، رجلاً كان أم امرأة. وفقاً لدراسة نشرها مركز التعاون الدولي (Center for International Cooperation) التابع لجامعة نيويورك، في أكتوبر/ تشرين الأول 2020، فإن نصيب النساء من التعيينات العليا في الأمم المتحدة قد ارتفع بشكل ملحوظ، لكن النساء المنحدرات من أوروبا الغربية وأميركا الشمالية ما زلن المهيمنات على المناصب العليا بنسبة 38%.
يضاف إلى هذا التمايز، أو التمييز، بين النساء، اختلاف في نوع المهام الموكولة إليهن. فبينما تتولّى المرأة العربية مناصب قيادية يغلب عليها الطابع الاجتماعي والحقوقي، وتدور حول المرأة والطفل ومكافحة العنف، فلقد سلّم غوتيريس الأميركية روزمري دي كارلو رئاسة إدارة الشؤون السياسية وبناء السلام، وعهد إلى الفرنسية كاترين بولار تسيير إدارة الاستراتيجيات والسياسات الإدارية ومسائل الامتثال، ونصّب الإسبانية آنا ماريا مينينديز كبيرة مستشاري السياسات في مكتبه التنفيذي، بينما ظفرت اليابانية إيزومي أكاميتسو بمنصب وكيلة الأمين العام والممثلة السامية لشؤون نزع السلاح.
عدد المديرات التنفيذيات في المنظومة الأممية وكبريات الشركات العالمية آخذ في الارتفاع
قد تتشابه الألقاب وتتساوى الرواتب، وتتقابل المقاعد داخل مجالس الإدارة الأممية، ولكن السّلطة لا تتساوى بهذه الشكليات، ليس لأن غوتيريس لا يملك الرغبة في ذلك، ولكن لأن التعيينات العليا سياسية بالأساس، وتحتّم عليه الأخذ بالاعتبار علاقات القوة داخل المنظمة، حرصاً على ضمان تمويل أنشطتها. وهذا ما يفسّر اختيار الأميركية هنرييتا فور مديرة تنفيذية لـ "يونيسف"، التي جلبت للمنظمة خبرة دولية واسعة، وشبكة معارف شخصية في عالم الأعمال والسياسة، ودعماً أميركياً وأوروبياً، ما جعلها تؤمّن السنة الماضية ما يزيد على ملياري دولار، مساهمة من أميركا وألمانيا والاتحاد الأوروبي، فضلاً عن تبرّعات القطاع الخاص. وتبعاً للمنطق البراغماتي نفسه، اختار غوتيريس الدنماركية إنجر لاكور أندرسن لرئاسة برنامج الأمم المتحدة للبيئة، ليضمن الدعم المالي والسّياسي للدول الأوروبية، والاسكندنافية تحديداً، المعروفة بالتزاماتها البيئية، ويمكن قياس باقي التعيينات على الحسابات السياسية ذاتها.
وقلّما تنتقد الحركات النّسوية التمييز بين نساء الشمال والجنوب، ورجال الشمال والجنوب، ربما لأن هذه النظرة العمودية تضع مشكل السلطة في إطار أوسع، لا يخدم سردية مظلومية المرأة نتيجة النظام الذكوري، بل تطرح مشكل هيمنة "الليبرالية المتوحشة"، والدّور الذي تلعبه المرأة فيها، عنصراً فاعلاً في المجتمع، لا ضحية. وفقاً لثوابت الخطاب النسوي، تشير الباحثة الأميركية بيج أرثير إلى أن تعيينات النساء في منظومة الأمم المتحدة لا تختلف كثيراً عن كبريات الشركات في القطاع الخاص، حيث تسجّل المرأة حضوراً ضعيفاً على مستوى الرؤساء التنفيذيين. وتستدل أرثير بدراسةٍ أبانت أنه، إلى حدود 2016، لم ترأس المرأة إلا منظمة واحدة من بين أكبر عشر منظمات أممية، من حيث الميزانية وعدد الموظفين، وبذلك لم تستطع إدارة أكثر من 5% من الميزانية الإجمالية لهذه المنظمات.
لافت أن المرأة أصبحت تقود منظماتٍ تعمل على إخضاع دول العالم لمزيد من العولمة
تغيرت الصورة منذ ذلك الحين، فعدد المديرات التنفيذيات في المنظومة الأممية وكبريات الشركات العالمية آخذ في الارتفاع، ومديرة "يونيسف" هنرييتا فور تشرف الآن على ميزانية تفوق 6.5 مليارات دولار، وتتساوى مع ميزانية إدارة حفظ السلام التي يرأسها الفرنسي جان بيير لاكروا. اللافت في هذا التغيير أيضاً أن المرأة أصبحت تقود منظماتٍ تعمل على إخضاع دول العالم لمزيد من العولمة، فلأول مرة، انتُخبت امرأة، النيجيرية الأميركية نغوزي أوكونجو- إيويلا، على رأس منظمة التجارة العالمية، بينما خلفت البلغارية كريستالينا جورجيفا الفرنسية كريستين لاغارد، في رئاسة صندوق النقد الدولي الذي أضرّت سياساته اللاإنسانية بالرجل والمرأة معاً. فهل يجب الاحتفال بهذا الإنجاز النسوي، أم ينبغي طرح دور المرأة في تكريس "المنظومة البطريركية"؟
من الواضح أن القسمة الجندرية المتساوية، على عكس ما توحي به خطابات غوتيريس النضالية، ليست عادلةً بين الجنسين، لأنها ليست عادلةً بين أفراد من الجنس ذاته، فمشاركة المرأة في القيادة بأعداد مساوية لأعداد الرجال عددية، شكلية، لا تهدّد علاقات القوة داخل المنظومة الدولية، وخارجها. وتولّي المرأة مراكز قيادية غير كفيلٍ بإلغاء القيود الاقتصادية والاجتماعية التي يخضع لها الرجل والمرأة معاً، ولن يتحرّر أيّ منها إلا بالتخلّي عن الحرب الجنسانية التي تسمّم مجتمعاتنا، والانخراط في معركة إنسانية.