"غضب وكنداكات" وظلال سودانية
أمّا وأن صورة غلاف أحدث روايات أمير تاج السر، "غضب وكنداكات" (هاشيت أنطوان، بيروت، 2020)، لشابةٍ سودانيةٍ في واحدةٍ من تظاهرات الثورة التي يكتمل بعد غد عامان على إسقاطها نظام عمر البشير، فإنك تعبُر إلى قراءتها، وفي بالك أنها عن هذه الثورة. ولمّا تنتهي من قراءتك، الشائقة حقا، تجدها كذلك. غير أنك، في الأثناء، لم تُصادف أبدا اسم السودان، ولا أيا من أمكنة هذا البلد، ولا أي إشارةٍ ظاهرةٍ إلى أي مسؤولٍ معروف فيها. ولم تفلت من صديقنا تاج السر مفردةٌ في أيّ من مقاطع روايته (155 صفحة)، البالغة الطرافة، تكسِر ما يجوز اعتبارها حيلةً إبداعيةً موفقة. ولما كنّا قد تعرّفنا، إبّان الثورة السودانية، إلى تسمية "الكنداكة"، عندما شاهدنا شابّاتٍ سودانياتٍ يغنين قصائد شعبية في بعض المظاهرات، ويردّدها الثوار معهن، وعلمنا أن هذا المسمّى يخصّ ملكاتٍ في إحدى الحضارات القديمة في أرض السودان، فإن واحدةً من مواطن النباهة في الرواية أن السارد لا يكترث بهذا التفصيل، وإنما يُخبرنا عن تظاهراتٍ كانت "كثيفةً ومشتعلةً في شوارع متعدّدة، وظهر فيها نجوم جدّدوا في الهتاف، ورفع الشعارات، وظهرت فيها الفتيات الملكات الملقبات بالكنداكات، كنايةً عن نسبهن للتاريخ الناصع للنساء".
وإلى هذا، من مفارقاتٍ أخرى يزدحم بها هذا النص أنه، في مسمّاه وعنوانه، يحيل إلى ثورةٍ غاضبةٍ ونساء "كنداكات" فيها، فيما الشاغل الأساسي لمجرى السرد هو عن حارس بوابة في المطار، يجنّده الأمن الوطني مخبرا على الناس، ومنهم المتظاهرون. هو الشخصية المركزية في الرواية، واسمُه خضر جابر، المعروف بـ"خج"، يكاد يحقّق مفهوم الشخصية المدوّرة الذي ابتدعه الناقد الإنكليزي، إي إم فوستر، وقال منظّرون شرّاح لها إنها التي تُقنعنا فيما تفاجئنا به. لم يمنحه أمير تاج السر الانفراد بالتكلّم عن نفسه، وعمّا يشاهد ويعاين ويسمع، وعما تختبره حواسّه ويجوسُ في حواشيه، بل أعطى السرد لراويةٍ، مهيمن، يستتر وراءه الروائي، ليتجاوز تشخيص المشهد العام، وتفاصيل الفضاءين، المكاني والزماني، والحكي عن الشخصيات، العديدة والمتنوعة الأمزجة هنا، بمنظور أعرض، أوسع من عيني حارس بوابة المطار.
لقائل أن يقول إن نهوض "غضب وكنداكات" على طغيان ساردٍ عليمٍ خيارٌ كلاسيكي، وإن مجرى السرد أخذ هنا أيضا منحىً خطّيا كلاسيكيا، من حيث تواتر الحوادث والوقائع، لا تقطعُه لعبة تناوبٍ بين أزمنة ماضٍ وحاضر، ولا استرجاعاتٌ واستعادات، وإنما يتماوج فيها تذكّر، وتتقاطع تفاصيل وإحالاتٌ، والفكاهة ظاهرةٌ غالبا، وهذا كلامٌ ينتسب إلى الوصفي، لا إلى النقد في وظيفته "علما" في التقييم، وفي حضور الإبداعية أو غيابها. وهنا، أقول إن اللفتة الخاصة في رواية أمير تاج السر الجديدة (الرابعة العشرين!) هي في المفارقات الغزيرة، واحتشاد مواضع التهكّم المضمر من الحالة كلها. كأن هذا العمل يعتني بتظهير حالة عنصر الأمن، مُستخدَما، يزدريه مشغلّوه، ولا يحفل به الثائرون، وهو لا يبادر إلى فعلٍ يحاول به مقاومة حالته هذه، وإنْ يعمل على المداورة، وعلى تصوير نفسِه مستضعَفا، فيثير التعاطف معه، ولعل شيئا من هذا الشعور يتسرّب إلى قارئ الرواية (؟). وفي حالته، حارسَ بوابةٍ في المطار، يُراد منه أن يكون مُخبرا متواضع القيمة، ثم لا يفلح ولا يصنع شيئا، لا يشابه رجل الأمن القديم، عبد الله حرفش، في رواية أمير تاج السر "صائد اليرقات" (ثقافة للنشر والتوزيع، بيروت، 2010)، والذي تقيله المؤسسة الأمنية، بما يشبه إلغاءه، بعد إصابته في عمليةٍ أمنيةٍ، فيقاوم استهدافه هذا بكتابة رواية. لا يكتب "خج" شيئا، وإنما تنكتب عنه روايةٌ تضجّ بالإيحاءات وبمفاجآت لغةٍ ساخرة، تتقنع بجدّيةٍ ظاهرة، عن حالته في غضون "ثورةٍ تحولت إلى دافعٍ عميق، وثري، لن يستطيع أن ينكره أحد"، ضد نظامٍ "يتهاوى ويتآكل" و"حديدي متشنّج"، يهتف غاضبون مع مسرحيٍّ حانق على السلطة "حرية سلام وعدالة .."، في تجمّع حاشد، تعقبه مظاهرة مليونية، نظّمتها "قوى التغيير".
يُستغنى عن خضر جابر، فيتذكّر تجنيده في قسم التوبة في جهاز الأمن الوطني في حي البركة الشعبي، وتصبح في جوانحه ثورةٌ "كان ثلاثة أرباعها إعصارا داخليا". هو الذي انتبه في غضون عمله مُخبرا إلى "عددٍ من رجال المليشيات الفوضوية التي تحتضن السلطة، والسلطة تحتضنها". وفي الأثناء، ثمّة عناصر أمن كثيرون، أحدهم اسمه "اللعاق"، وثمّة نساءٌ ساخطات، بعضهن كنداكات، إحداهن أخته التي ترفع صورته شهيدا، لتزيح صورة الخائن التي رُمي بها، غير أن المتظاهرين ينظرون إلى الصورة بامتعاض، ويواصلون الهتاف .. ويتواصل في المدوّنة الروائية العربية مُنتجٌ قادرٌ على هزيمة البوليس العربي القامع، بالسخرية منه، بازدرائه، وكشف احتقارِه نفسَه، كما فعل غير روائي عربي (فعلها ميشيل كيلو في "درب الجسور")، وكما فعلت "غضب وكنداكات" في لعبة ظلالٍ سودانية ماكرة.