غزّة بين إدغار موران وهابرماس
غدت قضية غزّة اليوم إنسانية عالمية، وغدَت بمثابة ميزان أخلاقي للإنسانية جمعاء، يتمحور حولها كثيرون في مواقفهم وتوجّهاتهم قرباً أو بُعداً، ومن خلالها يتضح إلى أي مدىً لا يزال الضمير الإنساني حاضراً، وخصوصاً إذا ما اقتربنا من النخبة الفكرية والفلسفية العليا للمنظّرين والمفكّرين والفلاسفة العالميين الكبار. وتقترب هذه المقالة من شخصيتين فكريتين كبيرتين، لنرى من خلالهما المعيار الأخلاقي الحاكم لموقفيهما، وهما المفكر الفرنسي إدغار موران ونظيره الألماني يورغن هابرماس، وهما أكبر فيلسوفيْن معاصريْن اليوم.
إدغار موران هو فيلسوف فرنسي من أصول يهودية، يتموضع اليوم واحداً من أهم مفكّري العالم المعاصر وفلاسفته، مسجلاً حضوراً فلسفيا وأكاديمياً بارزاً لما يقارب قرنا، وقبل ذلك كله برز صاحب موقف نقدي أخلاقي واضح بشأن عديد من قضايا العالم، وفي مقدّمتها قضية فلسطين، وفي قلبها اليوم العدوان الصهيوني على غزّة. وبذلك لم تكن كلمته أخيراً في مراكش على هامش الدورة الثانية لمعرض الكتاب الأفريقي، إلا استمراراً لمساره النقدي الواضح الذي تميّز به، منطلقاً من قاعدة أخلاقية يبني عليها مواقفه وتوجّهاته بشأن قضايا وسياسات كثيرة في عالم اليوم.
عبّر إدغار موران بحزن شديد عن مأساة غزّة وحالة العجز التي تعتري الجميع حيالها، مستنكراً صمت العالم وصمت الولايات المتحدة "حامية إسرائيل"، عدا عن صمت دول عربية ودول أوروبية تجاه ما يجري في غزّة من مجازر، مستنكراً الموقف الأوروبي بشدّة، حيث أوروبا التي تدعي دائماً دفاعها عن الثقافة والإنسانية وحقوق الإنسان.
يمثل موقف فيلسوف بحجم إدغار موران، ومكانته العالمية اليوم، فارقاً مهمّاً في مسار الأفكار والمواقف
ولم يكن هذا الموقف الأول في مسيرة موران الطويلة معرفياً وفلسفياً، خصوصاً حيال القضية الفلسطينية، فقد عُرف عنه موقفه الدائم في دعم حق الشعب الفلسطيني بالتحرّر وبناء دولته المستقلة، فقد كتب عدّة مقالات في هذه الخصوص، من أهمها مقال بالاشتراك مع سمير ناير ودانييل ساليناف، ونشر في صحيفة لوموند الفرنسية عام 2002 ودانوا فيه الغطرسة الإسرائيلية، ما أغضب الدوائر الصهيونية التي اتّهمته بمعاداة السامية، وكان على وشك الذهاب إلى المحاكم.
وكان موران قد كتب مقالاً آخر قبل هذا، تحت عنوان "فلسطين – إسرائيل: الرؤية المزدوجة"، تحدث فيه عن موضوع الحجاج الفلسطيني – الإسرائيلي بشأن الحقّ في الأرض، ونشره في صحيفة لبراسيون عام 1997، وأثار حينها جدلاً كثيرا، وردة فعل الدوائر الصهيونية التي تُشهر تهمة معاداة السامية في وجه كل من يقترب من تفكيك الأكاذيب الصهيونية، كما فعلت مع المفكر والفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي من قبل.
وفي العموم، يمثل موقف فيلسوف بحجم إدغار موران، ومكانته العالمية اليوم، فارقاً مهمّاً في مسار الأفكار والمواقف، خصوصاً حينما نرى العالم الرسمي وتواطؤه الكبير والمكشوف مع دولة الكيان الصهيوني واختلال معاييره في قضايا كثيرة، خصوصاً إذا ما رأينا في الجهة المقابلة فيلسوفاً آخر، كبيراً مكانة ووزناً، الألماني يورغن هابرماس، أحد أعمدة مدرسة فرانكفورت وموقفه النقيض تماماً لموران بخصوص الحرب والعدوان في غزّة. يقف في الجانب المقابل والنقيض تماماً لموقف إدغار موران، من الحرب، وكلاهما أستاذا اجتماع، ويمثلان اليوم مرجعية فلسفية كبيرة علمياً، ولكن هابرماس سقط سقوطاً مدوّياً فيما أطلق عليها وثيقة مبادئ التضامن التي وقع عليها مع اثنين من زملائه ورفاقه الألمان، مع دولة الكيان الإسرائيلي في فلسطين المحتلة وعدوانها على غزّة. وتكمن خطورة الوثيقة في أنها تتجاوز أبسط معايير الفلسفة بوصفها فعلاً عقلياً يفقد قيمته وعقلانيته وسموّه كلما كان نقيضاً للفضيلة، فكل فعل فلسفي هو عقلي بالضرورة، ولكنه يفقد عقلانيته تماماً إذا فقد مرجعيته الإنسانية والأخلاقية، وهذا ما اعترى هابرماس وجنى على مشواره الفلسفي الكبير في مقتل، فلا يمكن أن يُمحى من تاريخه، وستظلّ نقطة سوداء في تاريخ الرجل ومشروعه الفلسفي الذي فقد مرجعيته الأخلاقية، بموقفه الذي سوّغ العدوان على غزّة.
العلم والفكر والفلسفة إن لم تُضف لصاحبها فائضاً من الإنسانية والقيم الأخلاقية فهما وبالٌ عليه، وشرٌّ على الإنسانية كلها
بالرجوع إلى نصّ هابرماس (وزميليه)، وهو نصٌ لا تقف دلالته عند حدود ما قاله النص نفسه، وإنما يتجاوز ذلك ككل إلى ما لا يقوله النص مباشرة من محمولاتٍ ودلالات، ما يعني أن ثمة موقفاً سلبيّاً لا أخلاقيّاً تجاه شعب شُرد من بلاده واحتلت أراضيه، وقضيته من أوضح القضايا في وقع هذه اللحظة البشرية، وبالتالي، لا يمكن أن تغيب قضية واضحة كقضية فلسطين عن فيلسوف كهابرماس الذي يرى بيانه المخاتل أن قضية الشعب الفلسطيني بدأت صبيحة يوم 7 أكتوبر، وليس منذ ما يقارب قرناً إلا ربع.
ولا يمكن تفسير هذا الموقف المريب من هابرماس بشيء لا علمي ولا منطقي ولا أخلاقي ولا فلسفي، وهو ذلك كله طبعاً، وإنما ثمّة ما يُفسر مثل هذا الموقف ضمن السياق العام للرُهاب العام الألماني من سطوة قضية المحرقة (الهولوكوست) التي لا تزال تحكم اللاوعي الجمعي الألماني، ولا تزال سطوتها جلية على رقاب الساسة والمفكّرين والفلاسفة الألمان. أما كموقف علمي وفلسفي، فيتناقض موقف هابرماس تماماً مع ذلك، ولا يمكن أن يحتمل مثل هذا الموقف تجاه قضية الشعب الفلسطيني وما يتعرّض له من عدوان همجي غاشم، ففضلا عن لا منطقية هذا الموقف ولا علميته، فهو موقف غير أخلاقي بامتياز، يتناقض تماماً مع أبسط معاني المنطق الفلسفي الذي لا يجب إلا أن يتسق مع الفضيلة والحق والحقيقة وحدها التي تمنح هذا الموقف إنسانيته وأخلاقيته.
وختاماً، إدغار موران ويورغن هابرماس شاهدان واضحان لمدى البون الشاسع بين نموذجين من البشر، بغضّ النظر عن مكانة كلٍّ منهما وقيمته العلمية والفكرية والفلسفية، فأبسط تعريف للإنسان إنسانيّته، وأي إضافاتٍ على هذا التعريف لا تزيد شيئاً ذا قيمة، فالعلم والفكر والفلسفة إن لم تُضف لصاحبها فائضاً من الإنسانية والقيم الأخلاقية فهما وبالٌ عليه، وشرٌّ على الإنسانية كلها، لما يتمتّع به المفكّر والفيلسوف والمثقف من حضورٍ يضفي على نقاشاته بعداً آخر. ومن ثم ما لم يكن المعيار الأخلاقي الإنساني المجرّد هو المحدّد لكثير من أحكامنا ومواقفنا في هذه الحياة، فلا خير في كثير من ألقابهم وما يحملون إلا كمثل الحمار يحمل أسفاراً.