غزّة: العروش والجيوش والقروش
قارن بين التصريحات الرسمية العربية ونظيرتها الروسية والتركية والإيرانية فيما خصّ رؤيتها إلى المقاومة الفلسطينية وموقفها منها، ستكتشف من أول وهلة أن المقاربات غير العربية لمبدأ الحقّ الفلسطيني في المقاومة أكثر عروبة من المقاربات العربية.
جل التصريحات الصادرة من العواصم العربية لم تمتلك الشجاعة لإعلاء التأييد للمقاومة وإعلانه، بل اعتمدت، في غالبيتها الكاسحة، على المعايير الغربية في تناول القضية، من حيث أنها قضية إنسانية بالأساس، يتساوى فيها الجاني والضحية في الحقّ في الحياة، لا بوصفها قضية تحرّر وطني فلسطيني كانت عقود طويلة تسمّى القضية المركزية للعرب، تلخّصها مقولة الصراع العربي الإسرائيلي.
قبل يومين، كان المندوب الروسي الدائم لدى الأمم المتحدة، فاسيلي نيبينزيا، يعلن في كلمته أمام الجلسة الاستثنائية الطارئة للجمعية العامة للمنظمة العالمية بشأن فلسطين أن "إسرائيل ليس لها الحقّ في الدفاع عن النفس في الصراع الحالي لأنها دولة احتلال". كم حاكمًا أو مسؤولًا عربيًا قالها بهذا الوضوح؟ لا أحد، إذ كلهم يبدأون من حقّ الكيان الصهيوني في الدفاع عن نفسه، ومنهم من لا يخجل من ربط المقاومة، ممثلة في "حماس"، بالإرهاب، وأقصى ما يمكن أن يعترض عليه هو المبالغة في استخدام القوة الصهيونية في أثناء هذا الدفاع الزائف عن النفس.
في ذلك من الواجب الإشارة إلى العبارات القوية للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في ذروة اشتعال المواجهات، والتي شدّد فيها على أن المقاومة الفلسطينية ليست إرهابًا، وأنها حقّ مشروع، وسبقه في ذلك الرئيس الإيراني، وقادة بعض دول أميركا اللاتينية، في انحيازهم الصريح للحقّ في المقاومة، الحقّ الذي ينكره ويستنكره ويدينه محمود عبّاس.
خطاب استنكار المقاومة وإدانتها اشتعل في الساعات الأخيرة، بعد إنجاز الكيان الصهيوني مهمته في تدمير قطاع غزّة وتحويله إلى أنقاض، وهو الخطاب الذي يعبّر عن نفسه بشكل سافر في وسائل الإعلام المصرية والسعودية، بالأخص. وينطلق من الهجوم على حركات المقاومة، وفي الوقت ذاته، البكاء الكاذب على الضحايا من أبناء غزّة، مع تركيز خبيث على محاولة الفصل بين الشعب ومقاومته، وهو ما يتطابق حرفيًا مع ما يردّده جنرالات الاحتلال الصهيوني في مؤتمراتهم الصحافية.
النغمة السائدة، أو النوتة الموسيقية الموحدة الموزّعة من "المتحدة"على الصحف والقنوات المصرية التابعة للنظام طوال اليومين الماضيين، تعزف على وتر الإدانة المطلقة لحركة حماس، قلب المقاومة الفلسطينية، بل وتصنّفها عدوًا للشعب الفلسطيني، فينشر موقع "اليوم السابع" في عنوان طويل وأهبل " حماس أجهضت جهود مصر لإنهاء الانقسام.. قيادة الحركة تراوغ رفضا لإعلان الوحدة الوطنية وتشكيل حكومة موحدة.. كثفت من تحركاتها لإفشال المصالحة لأهدافها الخاصة.. وحاولت تفجير موكب رئيس الوزراء الفلسطينى الأسبق".
أما القناة الإخبارية، الذراع الخارجية لإعلام النظام المصري، فتقرّر بمنتهى الثقة أن فصيلًا فلسطينيًا (حماس طبعًا) يدعم خطّة إسرائيل لتهجير الفلسطينيين إلى سيناء". والنص ذاته بالعبارات ذاتها تقريبًا يتردّد عبر القنوات الفضائية التابعة لكل من الرياض وأبوظبي، في تزامن لافت مع الإعلان عن التوجيهات السامية بتدشين حملات التبرع الشعبية لإعادة بناء غزّة وإعمارها.
إذن، بعد الصمت المتواطئ على تدمير غزّة، وقتل نحو عشرة آلاف فلسطيني أكثر من نصفهم من النساء والأطفال، جاء موعد غسيل الأيدي من الدماء، تلك الأيدي العاجزة المرتعشة، عن طريق تحميل الطرف المقاوم دفاعًا عن أرضه وشعبه المسؤولية، بل ووصمه بالإرهاب أحيانًا، على نحو ما تفعل الأصوات الناعقة محليًا، مثل إبراهيم عيسى، وخارجيًا مثل باسم يوسف الذي لم يفاجئني وهو يردّد خلف المذيع البريطاني في البرنامج ذائع الصيت أن حماس إرهابية، لم يفاجئني بالنظر إلى أنه يبقى ذلك الشخص الشرق أوسطي الخالص، كما قلت عنه في مقال منشور عام 2015، مع إطلالته في حلته الشرق أوسطية النموذجية، في حفل جوائز "إيمي الأميركية". وقتها سجلت أنه "على مستوى الشكل والطلة، بدا باسم يوسف متفوّقاً على كبار نجوم السينما والميديا الأميركتيين. وفي المضمون، لم تسعفه ذاكرته، أو ضميره الإنساني، وهو يستعرض عذاباتِ العالم ومعاناته مع الإرهاب، من باريس حتى سيناء، مروراً بمالي وكينيا ونيجيريا، أن يتذكّر إرهاباً أشد قبحاً وإجراماً، مثل ذلك الإرهاب الصهيوني، الذي يمارسه المستعمر الإسرائيلي، باسم الرب أيضاً، ضد الشعب العربي الفلسطيني، صاحب الأرض والحق".
لم يكن مطلوبًا من باسم يوسف بعد إعادة تقديمه مناضلًا في حلقة أولى قبل أسبوعين، سوى كلمة واحدة هي “ Yes” ردًا على سؤال هو محور اللقاء كله وغايته "هل توافقني على أن حماس إرهابية"؟.
إذن، وبعد أن اقتربت مهمة تدمير غزّة من الاكتمال، والتي قال عنها الصهيوني نتنياهو أنها مصلحة مشتركة لإسرائيل وأصدقائها العرب، حانت لحظة الاصطفاف ضد مشروع المقاومة، المشروع الذي يشكل خطرًا على الجيوش والعروش العربية، ولا بأس في سبيل تحقيق درء الخطر من إطلاق حملات جمع القروش لتمويل بناء ما هدمه الاحتلال بموافقة رسمية عربية، فتعلو أصوات مزاد المساعدات المالية العربية لإعادة البناء والإعمار، وحملات الإغاثة بتوجيهات رسمية.