غزو أوكرانيا وطموحات بوتين
يُعيد الغزو الروسي لأوكرانيا منذ 24 فبراير/ شباط الماضي تموضع القوى الكبرى على الساحة السياسية الدولية، وتعريف علاقة أوروبا ببعضها من جهة، وعلاقتها بروسيا من جهة أخرى، بعدما ضرب الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، استقرار القارّة العجوز بنقله حروبه المباشرة إليها. حتى من كانوا يصنفون في خانة أصدقائه والمدافعين عنه في أوروبا باتوا على مسافةٍ منه، ولو إلى حين. ولكن الأهم أن هذه الحرب، بصورتها الحالية، أظهرت للمرّة الأولى منذ عقود الوضع الحقيقي للجيش الروسي، والهوّة الواسعة بين طموحات بوتين التوسعية وقدرات جيشه.
يوم اختار بوتين إعلان غزو أوكرانيا في فبراير/ شباط الماضي، ألقى خطاباً مطوّلاً قدّم فيه رؤيته للتاريخ، بما في ذلك التاريخ الأوكراني، حتى أنه عاد في حديثه إلى الثورة البلشفية في العام 1917، والعلاقات الدولية والنظام الذي ساد منذ الحرب العالمية الأولى وحلف شمال الأطلسي الذي جاءت فقراتٌ طويلة في الخطاب على انتقاده وتفنيد ممارساته التي يرى الرئيس الروسي أنها تستهدف بلده.
بدا بوتين يومها أنه يستعجل وضع النهاية للحلف، وإرساء عالمه الذي يشتهيه ساخراً من "العالم المتحضّر". ثم لم يخل أي خطاب لاحق له، منذ ذلك التاريخ، من إضافاتٍ وتكرار لمواقف تدور حول هذه العناوين الرئيسية، مستغلاً أنه في موقع الطرف "القوي" الذي يفعل ما يريد، ومستنداً إلى جيشه الذي يغزو أوكرانيا ويتنقل بين مدنها.
ولكن مع تبدّل الأوضاع على الأرض، والهجوم الأوكراني المضادّ، وتقهقر القوات الروسية، وجد بوتين نفسه أمام وضع مغاير. اختار هذه المرّة "احتفالية" توقيع اتفاقيات ضم دونيتسك ولوغانسك وزابوريجيا وخيرسون إلى روسيا بعد الاستفتاء الصوري في المقاطعات الأوكرانية الأربع، ليلقي خطاباً جديداً صوّب فيه مجدّداً على الغرب. ظهر بوتين هذه المرّة كمَن يبحث عمن يحمّله مسؤولية ما يتعرّض له جيشه من انتكاسات. ولكن مرّة جديدة، لم يكن كل ضجيج الضمّ وما رافقه من خطاب كافياً لإخفاء حقيقة ما أظهرته الحرب من نقاط خلل وضعف في الجيش الروسي، والذي ظهراً للمرّة الأولى منذ عقود على هذا القدر من الوهن، حيث يفرّ تاركاً خلفه أسلحته، متى ما وضع في مواجهة مباشرة.
بات بوتين يدرك، بعد 10 أشهر من بدء الحرب، أن غزوه أوكرانيا يختلف كثيراً عن تدخله العسكري في سورية في عام 2015 أو حتى ضمّه القرم الأوكرانية في 2014. ليس فقط بسبب ردود الفعل الدولية التي لا تقارن بين هذه الأحداث التي جرت خلال أقل من عقد، بل بسبب ما ظهر في الميدان. وإذا كان من نقطة تحوّل في هذه الحرب، طوال الفترة الماضية، فإنه يمكن ربطها بتفجير جسر القرم أخيراً. هذه الصفعة لموسكو حمّالة أوجه، لكن الأهم أنها سرّعت في انتقال روسيا إلى ما تجيده حصراً "سياسة الأرض المحروقة"، حتى أن بوتين أتى بجنرال التدمير وسلّمه إدارة المعركة، بعدما صار أكثر انخراطاً في وضع استراتيجية الحرب، بحسب ما ذكرت صحيفة نيويورك تايمز في سبتمبر/ أيلول الماضي.
أعادت القوات الروسية تطبيق ما فعلته بسورية، ضرب البنى التحتية، كهرباء وماء، ولا يستبعد أن تنتقل إلى المرحلة التالية، المستشفيات، ثم المجازر الواسعة بحق المدنيين... وكلما كبرت الهزيمة في الميدان يمكن توقّع الأسوأ ما دون "النووي"، بما في ذلك الهجمات بالأسلحة الكيميائية.
لا يمكن تصوّر أن بوتين سيرضى بالهزيمة في أوكرانيا، فهو يدرك جيداً تداعيات ذلك عليه وعلى طموحاته، وذلك كله يعني أن المرحلة الأخطر من الحرب الأوكرانية لم تأتِ بعد.