غريتا تونبرغ: فلسطين من أسس العدالة المناخيّة
في سياقٍ دولي جدّ حرج، وتزامناً مع قمة المناخ 28 في دبي، عبرت هذه المرّة آثار العدوان الإسرائيلي على غزّة إلى النخبة العالمية المهتمة بقضايا المناخ، لتأخذ دائرة التضامن العالمية مع حقّ الشعب الفلسطيني في الاتساع والوضوح أكثر. بدأت القصّة عندما وضعت الناشطة السويدية غريتا تونبرغ صورة لها على تطبيق إنستغرام، تحمل لافتة كتب عليها "لنقف مع غزّة". لتنهال عليها بعد ذلك ردود الفعل القوية والسريعة من إسرائيل وألمانيا تحديدا. واعتبر الكاتب آجيت نيرانجان، مع زميلين آخرين مشاركين في مقالة نشرت بصحيفة الغارديان البريطانية بعنوان لافت "لا عدالة مناخية بدون سلام"، أن الصورة شكلت بداية لظهور الاختلاف الحاصل تجاه الفعل الذي ينبغي اتّخاذه إزاء ما يحدُث في غزة منذ 7 أكتوبر؟
وحسب المقالة نفسها، صرّح المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أرييه شاروز شاليكار، في تفاعل مع صورة تونبرغ، بأن كل من يتعاطف مع تصريحاتها، وبأي شكل، سيكون مؤيداً للإرهاب. وهي تصريحاتٌ سيجرى التراجع عنها بعد ذلك، حسب كاتب المقالة، لكنها تدلّ على أثر الصورة وتصريحات تونبرغ في إحداث تحوّل في النظر إلى القضية الفلسطينية، ولعل ما يزيد الأمر دراماتيكية ساخرة تصريح رسمي إسرائيلي آخر، على منصة إكس هذه المرّة، يصف صواريخ "حماس" بأنها لا تستخدم مواد مستدامة! مختتما التصريح بطلب مباشر لغريتا، أقرب إلى الاستجداء، بأن تتحدّث عن ضحايا العنف من الإسرائيليين.
وإسرائيل هنا تحافظ على سياستها الممنهجة في توظيف مفاهيم "الإرهاب" أو "الشر المطلق" الذي يمثله في نظرها الفلسطينيون كافة، و"حقّ الرد المناسب"، وتوجيهها نحو فهم عالمي يخدم مصالحها الاستعمارية الفاضحة. واستمرارا في مزيد من الردود الانفعالية مع تجاه تصريحات تونبرغ، هدّدت وزارة التعليم الإسرائيلية، حسب آجيت، بحذف كل الإشارات التي تخصّ الناشطة المناخية السويدية داخل مناهجها الدراسية!
اعتبرت الناشطة غريتا تونبرغ أنّ حركتها كانت موجودة دوما من أجل تحقيق العدالة، وبجانب حقوق الإنسان أينما كانت، ولذا، لا عدالة مناخية من دون الاهتمام بحقوق الناس وحرّياتهم
أما ألمانيا، فيوضح آجيت أنها قد انحازت نحو الشذوذ عن بقية الديمقراطيات الأوروبية الغنيّة، لما تبديه من مساندة سياسية وإعلامية واسعة لإسرائيل، فقد اندفعت غالب أطياف المجتمع السياسي وتلاوينه بمطالبة الفرع الألماني لحركة "أيام الجمعة من أجل المستقبل" بعدم الانخراط في آراء الحركة في سياقاتها الدولية، وخصوصا السويدية منها، ودفعتهم تحت ضغوطها إلى إصدار بيان يدعم حقّ إسرائيل في الوجود. وينقل الكتاب أيضاً أن المجلة الألمانية ذائعة الصيت، دير شبيغل، أصدرت، هي الأخرى، مقالاً مطولاً يتناول شخصية تونبرغ ومظهرها وطفولتها، جعلت عنوانه معبراً عن وجهة نظرها "هل خانت غريتا حركة المناخ؟".
غير أن هذه الردود، رغم ذلك كله، لم تمنع جهاتٍ دوليةً عدّة من اتخاذ مواقف مشابهة لحركة السويد المناخية، وهذا ما أورده آجيت، بخصوص غالبية ناشطي المناخ في المملكة المتحدة والولايات المتحدة الذين تميزت مواقفهم بالإدانة القوية لما يعتبرونه "إبادة جماعية" واضحة الأركان تجاه الشعب الفلسطيني في غزّة.
ومن الواضح أن النقاش والاختلاف بين الفاعلين في المنظمات المناخيّة العالمية ينطلق من سؤال "الضرورة الأخلاقية" أو "القيم الكونية". ولهذا، أقدمت الناشطة تونبرغ في مقالة على "الغارديان"، وقعتها رفقة مجموعة من ناشطي المناخ في السويد، عنوانها "لن نتوقّف عن التحدّث عن معاناة غزّة علنا: فلا عدالة مناخية من دون حقوق للإنسان"، على نفي الاتهامات التي الصقت بها، سواء من إسرائيل أو الألمان وغيرهما من جهاتٍ اعتبرت أن الحركة اتخذت مسارا متطرّفا، وضاعت في متاهات السياسة. معتبرة أن الحركة كانت موجودة دوما من أجل تحقيق العدالة، وبجانب حقوق الإنسان أينما كانت، ولذا، لا عدالة مناخية من دون الاهتمام بحقوق الناس وحرياتهم.
الأهم في مقالة تونبرغ تنبيهها إلى السياق الأكبر لما يحدث في غزّة، حين أعربت بصراحة بأن ما يحدث هو نتيجة طبيعية لعيش الفلسطينيين عقودا طويلة تحت القمع والاحتلال وسياسات الفصل العنصري. وهو الرأي الذي كانت تخشاه إسرائيل، وتستميت لصرف الرأي العالمي عنه، لتجعل ما حدث يوم 7 أكتوبر مجرّد حدث معزول عن كل سياق فلسطيني آخر. ولعل الأجمل في رد تونبرغ تعليقها على عبارة "حقّ الرد المناسب" الملازمة لتصريحات المسؤولين الإسرائيليين وكل داعميها، معتبرة هذا الردّ إبادة جماعية مكتملة الأركان.
دائرة النقاش آخذة في التوسّع لصالح القضية الفلسطينية، ولصالح التوعية بحقوق الشعب الفلسطيني
ولا يمكن للقارئ ألا يلتفت لاستدلال تونبرغ بمقالة الخبير الدولي في الإبادة الجماعية راز سيكال، في مجلة "Jewish currents"، الذي اعتبر الإبادة الجماعية التي تقوم بها إسرائيل على غزّة واضحة بشكل تام، ولا تخجل إسرائيل من التصريح بذلك، كما جاء على لسان مسؤوليها السياسيين والعسكريين. وإذا كان أغلب مرتكبي الإبادات الجماعية تاريخياً لا يصرّحون، حسب تعبيره، بنياتهم، فإنّ إسرائيل شابهت مثالاً آخر استدلّ به، لم يخفِ نياته هو الآخر، مثال استدلالي له أكثر من دلالة في هذا السياق، وهو الإبادة التي حصلت عام 1904 في حقّ "شعب الهيريرو" الأصلي في جنوب غرب أفريقيا، من ألمانيا الاستعمارية آنذاك، الحرب التي انتهت بإبادة 80% من هذا الشعب. ولعل هذا المثال، إلى جانب "الهولوكست"، يجعلنا نعي أسباب تضخم عقدة الذنب الألمانية هاته، ونعي أيضاً ارتباطها الشاذّ بإسرائيل وربط أمنها بهذه الأخيرة.
ورجوعاً إلى مواقف تونبرغ، فإن دائرة النقاش بالفعل آخذة في التوسّع لصالح القضية الفلسطينية، ولصالح التوعية بحقوق الشعب الفلسطيني، غير أن المعركة لم تتوقّف عند هذا الحد، فهنالك سياقٌ آخر لا ينفصل عن النقاش القيمي والأخلاقي لقضايا المناخ، وهو ما أسماه آجيت نيرانجان بالبعد الإستراتيجي، الذي لا يقلّ أهمية عن الجانب السابق، فدولٌ عديدة تتمتع بأكبر قدر من التأثير والقوة في قضايا المناخ، والتي تشكّل منصّة دعم كبيرة لمنظمّات المناخ، لن تغامر هذه الأخيرة في مواجهتها بطرقٍ فجّة، كما أن حركاتها ستكون محسوبةً وحسّاسة. ولهذا، فإنّ البحث عن أساليب للتأثير في تصورات هذه الدول تجاه علاقة العنف بالعدالة والمساواة، والتأثير أيضاً في مواقفها وتصوّراتها تجاه حقّ الفلسطينيين من دون خسارة دعمها، سيكون المعركة الحقوقية والقيمية العالمية البارزة مستقبلا. وأخيرا، أهم عبارات تونبرغ، وأكثرها تأثيراً وشدّاً لانتباه ضمير العالم، قولها "الصمت تواطؤ، لا يمكنك أن تكون محايداً إزاء إبادة جماعية".