غابو... للمرّة الأولى
في طفولتنا، وفي زمان يبدو غير الزمان، كانت مكتبات استعارة الكُتب تملأ شوارع البلاد. كانت في شارع بيتنا بأمّ درمان مكتبتان، تعلّمنا منهما استعارة الكُتب المُستعمَلة من الرفوف المُكتظّة بالكتب القديمة التي غالبيتها بلا أغلفة.
لم تستمرّ هذه الحياة طويلاً. في العام 1989 جاء الإسلاميون إلى السلطة على ظهر الدبّابات. نفّذوا انقلاباً عسكرياً على الحكومة المدنية المُنتخَبة. وأسقطوا النظام الديمقراطي ليؤسّسوا "دولة المشروع الحضاري". كان أكثر أهداف هذا المشروع أهمّية "إعادة صياغة الإنسان السوداني"، فأُغلقت المكتبات العامة، وطُوردت الكُتب والمجلات، ومُنع دخول عناوين كثيرة إلى البلاد. حتى الكُتب الشخصية التي يحملها المسافرون العائدون إلى البلاد كانت تخضع للتفتيش في المطار، ويُصادر منها ما لا يعجب الأجهزة الأمنية.
في هذا الجو البوليسي المُخيف، بدأنا نبحث عن مكتباتٍ بديلة من تلك التي أُغلقت. واحتاج الأمر منّا بضع سنوات قبل أن نكتشف منجم الكُتب المستعملة في ميدان البوستة في أمّ درمان. بعض مكتبات نجت بشكل ما من المصادرة والمطاردة. أغلبها تَعْرِضُ كتباً دينية أو مدرسية، لكن بين كلّ مكتبتين تختبئ مكتبة ثقافية تَعْرِضُ كتباً أدبية قديمة. في وسطها اكتشفتُ مكتبة تمدّني بما أُحبّ. مصادفةً، عرض صاحب المكتبة أن يعيرني رواية "سرد تفاصيل موت معلن"، لم أُبدِ حماسةً لكنّي أخذتها. في طريق العودة إلى المنزل بدأت تقليب الرواية قليلة الصفحات، فاختطفتني الجملة الأولى. كانت تلك البداية مع غابرييل غارسيا ماركيز. غابو، صاحب الحكايات.
دلفت إلى قصة سانتياغو نصّار. وفي المواصلات العامة بدأت أقرأ هذه القصة المجنونة، التي لا تشبه أيّ شيء قرأتُه من قبل. ولما نَزلتُ في محطتي، ما استطعت أن أرفع عن الصفحات عيني، فمشيت في الشارع وأنا أقرأ بعين، وأنظر إلى الطريق بأخرى. كان ذلك سحراً أو كالسحر. تسرّبتْ الحكاية صفحة فصفحة، وعرّفني ماركيز إلى عالم لم أتخيل أنّه موجود، كلمة فكلمة. لم أحتجْ أكثر من تلك الصفحات لأُعلِنَ ماركيز، منذ ذلك اليوم، وحتى لحظة كتابة هذه الكلمات، أكثر من قرأت لهم أهمّية.
عندما وصلت إلى صفحات النهاية، وجرى نصّار ليحتمي بمنزله، فأغلقت أمّه الباب في وجهه، وتركته لطعنات الأخوين فيكاريو، عَرفتُ للمرّة الأولى الشعور السحري الذي عبّرت عنه بعد سنوات، الروائية المصرية منصورة عز الدين "تلك اللحظة السحرية التي تلتئم فيها الخيوط وتُسدّ فيها الثغرات كأنما من تلقاء نفسها". كلّ شيء يبدو مخطّطاً ليقود إلى هذه اللحظة العظيمة. كان ماركيز يجهّز المسرح لهذا المشهد. حدث هنا، ومشهد هناك، في سرد غير خطّي، لكنّه يقود للحظة ذروة عظيمة. وعند السطر الآخير من الرواية كُنْتُ قد عرفت معنى جديداً لمتعة الأدب.
في اليوم التالي، كنت أعود إلى مكتبة الاستعارة، أحمل الرواية التي قرأتها مرّتين، ومعها بدل الإيجار. ومن دون كثير كلام، ناولني صاحب المكتبة "مائة عام من العزلة". لم أجادل ولم أسأل. كان بيننا الآن تفاهم صامت. لقد علم أنّ السحر قد أصابني. وعلمتُ أنّ هذا الرجل سيصبح صديقي؛ أعني غابو. هذه الصداقة، التي بدأت مصادفة في النصف الأخير من التسعينيات، لم تنقطع حتى في رحيل غابو.
لم يُهمّني أنّه لا يعرفني، ولا يعرف أننا أصدقاء. معرفتي أنا ذلك كانت كافية. ربما لذلك شعرتُ بشيء من الإهانة لصديق عندما عرفتُ خبر صدور رواية "نلتقي في أغسطس"، التي طلب غابو حرقها. لكنّ ورثته قرّروا نشرها. شعرت أنّ هذه خطيئة في حق صديق. إنّنا نتلصص على مسوّدات لم يُحب أن يطلّع عليها أحد. لم أعتبر ذلك حقاً أدبياً للجمهور في أنّ يطّلع حتى على مسوّدات ومخطّطات واحد من أهمّ الروائيين عبر التاريخ. شعرتُ بأنّ الأمر شخصي جداً، وأنّ أبناء صديقي لم يحترموا رغبته.