عودة سورية إلى الحضن العربي ... ولكن

30 ابريل 2023
+ الخط -

عاد الملفّ السوري إلى واجهة الصراعات الإقليمية والدولية، خصوصاً بعد زيارة وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان دمشق، وتبنّي بلاده سياسة الدفع باتجاه إلغاء تجميد المقعد السوري في اجتماعات جامعة الدول العربية، وذلك نتيجة للمصالحة السعودية الإيرانية برعاية صينية. وسيعقد بعد أيام لقاء آخر لوزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي والأردن ومصر والعراق لبحث الملف السوري. ويترافق ذلك كله مع تقارب سوري تركي برعاية روسية ومشاركة إيرانية.

وكان وزراء الخارجية العرب قد قرّروا، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، في اجتماع طارئ في القاهرة، تجميد عضوية سورية في الجامعة، بسبب اعتماد النظام الخيار العسكري لقمع الاحتجاجات الشعبية. ومن الصعب تصديق أن هذا الموقف العربي الرسمي جاء دعماً للديمقراطية وحرية التعبير وكرامة الشعب السوري، فتلك الأنظمة قمعية وتخشى من انتقال عدوى الثورات إليها، خصوصا بعد إطاحة رئيسي تونس ومصر، واندلاع الاحتجاجات في ليبيا واليمن وسورية؛ ولكن الانتفاضة السورية حينها كانت في أوج قوتها، وكان الموقف الغربي يدين انتهاكات النظام، ويتحدث الأميركيون عن "أيام معدودة" للأسد، هذا دفع العرب إلى الاستعداد لمرحلة ما بعد سقوط النظام، وتمت القطيعة الدبلوماسية معه من عدة دول عربية.

عقوبات قانون قيصر واضحةٌ وصارمةٌ وموجّهة إلى كل من يدعم النظام عسكرياً أو في ما يتعلق بتجارة النفط وإعادة الإعمار

التدخلان الإيراني المليشياوي والروسي العسكري منعا سقوط النظام، فيما ساهمت العسكرة الكلية والتمويل وانتشار الجهادية بأشكالها، إلى جانب العنف المُفرط من القوات الحكومية، في انتهاء الثورة باكراً، وتصدّرت تمثيلَ الثورة معارضةٌ هزيلة، وضعت كل بيضها في السلة التركية، وانتهى الحال إلى تسليم مناطق واسعة للنظام وفق اتفاقات تركية روسية، وسيطرة "الإدارة الذاتية" على شرق الفرات بدعم أميركي، وبالتالي تقسيم سورية إلى مناطق نفوذ دولية تحكمها قوى الأمر الواقع، والدخول في حالة استنقاع مع الرفض الأميركي والأوروبي لإعادة تعويم نظام الأسد. وفي ظل هذا الوضع، كانت الإمارات سبّاقة إلى إعلان إعادة علاقاتها مع النظام، وأبدت مصر رغبة، وقدّم ملك الأردن عبد الله الثاني، إلى إدارة الرئيس الأميركي بايدن، مبادرة لإعادةٍ حذرةٍ للعلاقات مع دمشق، وفق مبدأ "خطوة مقابل خطوة"، فيما ظلّت قطر والمغرب والسعودية على موقف مبدئي رافض تعويمَ النظام من دون حل سياسي، ويتلاقى مع الاستراتيجية الأميركية؛ ولكن هاجساً كان حاضراً، خصوصاً لدى السعودية والإمارات، بعدم ترك الساحة السورية لتركيا وإيران. المتغير الذي جعل السعودية تقفز باتجاه دمشق هو الاتفاق مع إيران، برعاية الصين، والذي ما كان ليتم لولا الظرف الدولي الجديد بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا، وحالة الاستقطاب العالمي، وانشغال أميركا بمعاقبة روسيا وبتحسين قدراتها العسكرية في البحر الهادئ، ومعالجة مشكلاتها الاقتصادية. وقد شكّل هذا التراخي الأميركي فرصة لولي العهد السعودي محمد بن سلمان لتحقيق استقلالية أكبر عن القرار الأميركي، واستعادة نفوذ المملكة في المنطقة بوصفها دولة إقليمية، بعد محاولة إدارة بايدن إضعاف مكانتها عبر إدانتها بملفات حقوق الإنسان، وخلاف بسبب عدم إيفاء واشنطن بالتزاماتها بحماية أمن حلفائها من هجمات الحوثيين، وحول قرار "أوبك بلس" تخفيض إنتاج النفط؛ وبالتالي، استجابت الرياض لمبادرة بكين، وأعادت علاقاتها مع طهران ودمشق، في تحدٍّ واضح للتحذيرات الأميركية.

ما زال الأميركيون يملكون القدرة على تعطيل المبادرات التي لا تروق لهم بشأن سورية

الحكومات الأوروبية والإدارات الأميركية غير مهتمتين بتحقيق تطلعات الشعب السوري، وحرّيته وكرامته، أو تحقيق العدالة والقصاص من مرتكبي جرائم الحرب؛ لكن عقوبات قانون قيصر واضحةٌ وصارمةٌ وموجّهة إلى كل من يدعم النظام عسكرياً أو في ما يتعلق بتجارة النفط وإعادة الإعمار، ويُضاف إليها قانون "مكافحة المخدّرات" وعقوبات أوروبية متجدّدة، كان جديدها أخيراً الأسبوع الماضي. وهذا التشدّد في العقوبات كفيل بإيقاف تعويم نظام الأسد. يتخوّف تنظيم "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) من أن تفضي اللقاءات الرباعية الروسية التركية السورية الإيرانية إلى عملية عسكرية للسيطرة على شرق الفرات. وفي هذا السياق، تُمكن قراءة مبادرة الإدارة الذاتية للحل السياسي في سورية، التي وجّهتها إلى النظام، والتزمت فيها بوحدة سورية، وقدّمت أوراق حسن نية بأن توزّع الثروات النفطية والموارد الاقتصادية والزراعية، الواقعة تحت سيطرتها، بشكلٍ عادلٍ على كل المناطق السورية، مع التمسّك بطرح نظام حكم لامركزي. ما زال النظام يرفض أية استقلالية إدارية للإدراة الذاتية. وفي كل الأحوال، كانت واشنطن تدفع "قسد" إلى التوافق مع الروس والنظام، وقد تكون مبادرة الإدارة الذاتية للحل السوري مدفوعة أميركياً بغرض خلط الأوراق على مخطط روسيا وتركيا بإعادة العلاقات مع النظام من جهة، ومن جهة أخرى، مدخلاً لإقحام "قسد" ومن خلفها واشنطن في المبادرات العربية الجارية تجاه النظام، بغرض تعطيل بعضها، أو توجيهه بما يخدم المصالح الأميركية والإسرائيلية.

ما زال الأميركيون يملكون القدرة على تعطيل المبادرات التي لا تروق لهم بشأن سورية، بقوة وجودهم العسكري في قواعد قرب آبار النفط في شمال شرق سورية، وفي التنف، ودعمهم تنظيم "قسد" الذي يواجه فلول تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ولديه سجون لآلاف من عناصر التنظيم، ويسيطر على ثلث الأراضي السورية، الغني بالثروات الباطنية والزراعية. وليس في مقدور إدارة بايدن، والإدارات اللاحقة، أن تلغي العقوبات على مسؤولي النظام، حيث يجمع عليها الديمقراطيون والجمهوريون في الكونغرس ومجلس الشيوخ والبيت الأبيض وكذلك الرأي العام الأميركي. وهذا يعني أن إعادة العلاقات، سواء العربية أو التركية، مع حكومة دمشق، ستحمل دفعاً معنوياً للأخيرة، ولا يمكن أن تحقّق تقدّماً في الحل السياسي أو إخراج المعتقلين أو عودة المهجّرين في المدى المنظور، لأن أي تنازلٍ من النظام في هذه الاتجاهات يعني انهياره. وبالتالي، ستستمر حالة الاستنقاع السوري في ظل غياب أي دور سياسي للمعارضة، التي تكتفي ببيانات الرفض "الأخلاقي" للتطبيع العربي مع النظام، من دون استغلال لفرصة المتغيرات الجديدة، وطرح برامج وطنية تجدّد الأمل لدى الشعب في كل المناطق السورية وفي الخارج، لإعادته إلى انتفاضة جديدة، وهو الوحيد القادر على قلب كل الموازين.