عودة الدبابات في أفريقيا: الإرهاب والانقلاب

01 فبراير 2022

ينظر إلى صورة زعيم حركة التمرد في واغادوغو بعد الانقلاب (25/1/2022/فرانس برس)

+ الخط -

تقف ثلاثية الفساد والإرهاب والفقر في قلب معادلات الحكم في جسم القارّة الأفريقية التي مالت بعض دولها إلى إعادة إحياء الوصفات العسكرية للبحث عن حلول، أو ادّعاء ذلك، في ثلاث دول حديثة العهد بالانقلابات، مالي وبوركينا فاسو وغينيا. ويبدو أن الجماعة الجهادية، سواء بايعت الدولة الإسلامية (داعش) أو "القاعدة" في هذه الدول، قد أصبحت عود الثقاب الذي يشعل فتيل الانقلابات، فقد استقرّت مع‮ ‬جائحة كوفيد - 19، ‬نزوعات كانت أفريقيا تعتقد أنّها ودَّعتها إلى‮ ‬غير رجعة،‮ هي‮ ‬عودة العسكرية‮، فقد عاشت مالي انقلابين، منذ أغسطس/ آب 2021، وتلتها غينيا في سبتمبر/ أيلول 2021، ثم انقلاب بوركينا فاسو الذي افتتحت به البلاد السنة الجديدة في 42 يناير/ كانون الثاني الحالي، وفي جوار آخر عرفت تشاد الحل العسكري نفسه لتناقضاتها في إبريل/ نيسان 2021.
لعلّ زوايا المقاربة قد تغلّب أحد عناصر المعادلة على الباقي، لكن المشترك الذي يجمع عليه المراقبون أن منطقة غرب أفريقيا كانت من بين دول القارّة التي استقر فيها، على الأقل شكليا، التداول الديمقراطي، ونوع من استمرارية الحياة المدنية السياسية، المبنية على التعدّدية والاحتكام إلى القاعدة الدستورية، بحيث تحمل التقارير أنّ غرب أفريقيا صارت فيها المعايير الديمقراطية منظومة شبه عادية. والواضح أنّ الديمقراطية لم تصمد طويلا، ولا العقوبات التي قرّرتها المجموعات الإقليمية أو الدولية لم يكن لها الأثر المتوخّى. ولعل ذلك يكمن في أن الأسباب المحلية التي يشعر بها المواطنون والجنود كانت حاسمة، ولم تأخذ بعين الحسبان حسابات الخارج، على الأقل في الجانب العلني. ولا يمكن أن يخفى عن المحللين وجود أبعاد جيوسراتيجية، فإذا كان لكلّ بلد خصوصيته، فإنّ المشترك الناظم للعودة السياسية للعسكر يكمن، في جزء منه، في تآكل النخب وتهلهل الدول.

شعور لدى الجنود بأنّ السياسيين منشغلون بتوازنات المصالح أكثر من الإنصات إلى مخاوف الناس، وهو ما غذّى الشعور بأن السياسيين تخلوا عن الجيوش!

وقبل إدراج الإرهاب الجهادي في التحليل، يميل كثير من معاهد البحث والمحللين إلى تسليط الضوء على واقع الحال المؤسساتي. والمشترك بين الرؤساء المطاحين أنهم منتخبون، لم تمض على بعضهم سوى أشهر قليلة، كما ألفا كوندي في غينيا الذي تلت انتخابه احتجاجات عديدة، تحولت إلى انتفاضة ثم إلى تدخل عسكري. وفي بوركينا فاسو، انتخب الرئيس كابوري انتخاباً ديمقراطياً حقيقياً في 2015، لكنّ ما حدث أنّ تنامي العنف ومظاهر الفساد تسبّبا في "قضم" شعبية الرئيس، وتسهيل الانقلاب عليه. وهناك أخطاء قاتلة عطلت بها النُّخبة المدنية دينامية تقوية الحياة المدنية السلمية التي أوصلتها الى كرسي السلطة.
وأول هذه الأخطاء التغيير الدستوري لأجل الاستمرار في الحكم الذي يعتبر الرئيس كوندي نموذجه الخاسر. أضف إلى ذلك النزوع نحو التضييق على المعارضين، والذي وصل إلى حدَّ اعتقالهِم، وهو ما جعل كثيرين، ومنهم مراقبون أمميون، يتحدثون عن "السراب الديمقراطي" الذي اجتاح الشارع وأعطاه العسكر دلالاته المؤسساتية، ذلك السراب الذي كشف أنّ الشعوب في هذه الدول لم تعد تقتنع بأن للتصويت والاقتراعات أثرا على حياة الناس، أو يمكنهما أن يساعدا في تقليم أظافر العنف الجهادي.
وفي علاقة مركّبة وشرسة بين الإرهاب والانهيار الديمقراطي، هناك شعور لدى الجنود بأنّ السياسيين منشغلون بتوازنات المصالح أكثر من الإنصات إلى مخاوف الناس، وهو ما غذّى الشعور بأن السياسيين تخلوا عن الجيوش! على حد تعبير أورنيللا موضيران، الباحثة والمحللة في مجموعة التفكير التابعة لمعهد الدراسات الأمنية، في تصريح لقناة تي في 5 الفرنسية، فالإرهاب والعجز الواضح للدول ورؤسائها في تأمين حياة بدون جهاديين في مالي وفي بوركينا فاسو ظاهران، ما يدفع الجنود والضباط في المستويات الدنيا إلى الثورة مع شعور قاس بالعجز عن المواجهة مع عدو شرس ومدرّب ومسلح ويحدوه إيمان فظيع بضرورة التوحش، هو جيش الإرهابيين. وقد اتضح العجز في شمال البلاد وشرقها في بوركينا فاسو عبر مغادرة أكثر من مليون بوركينابي مناطقهم مع إغلاق المدارس والمستشفيات والهجرة إلى العاصمة.

لم تتردّد باريس والعواصم الأوروبية في التصريح العلني بأن الأمن في مالي شأن أوروبي، وفرنسي خصوصا

وقد استعادت بعض الدول التي عرفت الانقلاب، مثل مالي، بعضا من أمنها، بفضل التدخل العسكري الفرنسي وقوات دول غرب أفريقيا، وتلت ذلك السيطرة العسكرية على المرحلة الانتقالية، وتبييضها لفائدة قادة الجيش، بعد أن كانوا قد أعلنوا التزامهم بالعودة إلى المسلسل السياسي. ولعل التجربة المالية هي الأكثر تعبيرا عن قطاع المحلي بالجيوستراتيجي، باعتبار التدخل العسكري الفرنسي والأوروبي. وقد تباينت المقاربات بين العسكر والدولة الفرنسية في تأمين هذا التدخل، ولم تتردّد باريس والعواصم الأوروبية في التصريح العلني بأن الأمن في مالي شأن أوروبي، وفرنسي خصوصا، وفي‮ ‬منطقة تعد منصة دولية وجيواستراتيجية مهمة للقارّة وللشركاء في‮ ‬القارّات الأخرى، يكون لكل قرار يتخذه العسكر تردّدات في أروقة اتخاد القرار.‬‬ وفي هذا، حذرت باريس بأنه لم يعد بإمكانها مع شركائها الأوروبيين الحفاظ على الوضع في هذا البلاد على ما هو عليه. وقال وزير خارجيتها، جان إيف لودريان، إنه "نظرا إلى انهيار الإطارين، السياسي والعسكري، في مالي، لا يمكننا البقاء على هذا النحو"، مندّدا بـ"العقبات" المتزايدة بوجه مهمة "القوات الأوروبية والفرنسية والدولية". ومن مظاهر التنافس الجيوستراتيجية الذي تحكم أيضا في الحل العسكري وجود قوة مسلحة محسوبة على روسيا في المنطقة، بعد اتهام
المجلس العسكري بالاستعانة بمرتزقة "فاغنر" العسكرية الروسية. وأعاد المجلس العسكري نفسه النظر في الاتفاقات الدفاعية مع باريس، وطلب أخيرا من القوات الدنماركية المشاركة في قوة "تاكوبا" الأوروبية التي تقودها فرنسا مغادرة البلاد، وهو ما اعتبرته عدة مصادر فرنسية مطلعة على الملف "إهانة". ومن المنتظر أن تتخذ الدول الأوروبية خلال أيام قرارا بشأن "الشكل الذي ينبغي أن يتخذه مستقبل مكافحة الإرهاب في الساحل"، بحسب ما نقلت وكالة ريتساو الدنماركية بعد اجتماع عبر الإنترنت لوزراء الدول المشاركة في قوة تاكوبا التي تنشر 800 عسكري في مالي.

الجهاديون في طور تغيير الخريطة السياسية في المنطقة وتوازناتها الخارجية ودول مجموعة الاقتصاد في غرب أفريقيا (إيكواس) دخلت على الخط

ويعقّد الانقلاب في‮ ‬بوركينا فاسو المعادلة في المنطقة بالنسبة لباريس‮، كما كتبت وكالة فرانس برس، والسبب أنّ ‬ثلاثاً من الدول الأربع في‮ ‬منطقة الساحل التي‮ ‬تنتشر فيها قوة برخان الفرنسية المناهضة للجهاديين، ‬تخضع لحكم سلطات عسكرية‮. ومع صعود مشاعر معادية لفرنسا في المنطقة، تعيش فرنسا كابوس فقدان أحد معاقلها الجيوسياسية في القارّة الأفريقية. لا سيما وأن أوغندا نجحت في مسيرتها بعد انفصالها عن باريس، وقدمت النموذج لنخب عديدة، ومنها النخب العسكرية!‬‬‬‬‬‬
ومما يؤكد أنّ الجهاديين في طور تغيير الخريطة السياسية في المنطقة وتوازناتها الخارجية أن دول مجموعة الاقتصاد في غرب أفريقيا (إيكواس) دخلت على الخط. وفي اليوم نفسه، الذي عبّرت فيه أوروبا عن قلقها، قرّر مؤتمر رؤساء دول وحكومات "إيكواس" المنعقد بشكل استثنائي تعليق عضوية بوركينا فاسو في جميع مؤسسات المجموعة، وطالب الجيش بعودة فورية إلى النظام الدستوري. ودان المؤتمر "بشدة هذا الانقلاب، وأعرب عن قلقه العميق من تجدّد الانقلابات العسكرية في المنطقة". وهو ما يقود إلى سؤال طرحته يومية "لوموند" وهي التي عادة ما تصطف مع "الكي دورسيه" (مقر الخارجية) في قراءة المصالح الفرنسية في أفريقيا: على من الدور؟
الدولة التي تعيش بالقرب من الحريق العسكري هي النيجر، تشترك مع الدول الأخرى في قوة الوجود الجهادي، وتفكك النخبة وتزايد مسار التعفن في الدولة. أعلنت أنّها لن تستقبل هذه البعثة على أراضيها، وهو ما سيزيد من الصعوبة الجيواستراتيجية لفرنسا.
خلاصة القول، يبدو أنّ الجهاديين يغيرون من معادلات غرب أفريقيا ودول الساحل، ويُضعفون الوجود الفرنسي، وينشئون شروط الانقلاب على الديمقراطية... هل تولد أفغانستان أخرى في المعقل الفرنسي... سابقاً؟

768EA96E-E08E-4A79-B950-D8980EE5911C
عبد الحميد اجماهيري

كاتب وشاعر وصحفي مغربي، مدير تحرير صحيفة الاتحاد المغربية، مواليد 1963، عمل في صحيفتين بالفرنسية، من كتبه "أوفقير .. العائلة والدم.. عن انقلاب 1972"، ترجم كتابا عن معتقل تازمامارت. مسوول في فدرالية الناشرين المغاربة.