عودة البرادعي.. الماجيكو والجمهور
لا مصادرة على حق أحد في الاحتفاء بالإطلالات الوجلة لمحمد البرادعي على المشهد المصري، واعتباره لا يزال ذلك الساحر الذي يضرب بعصاه البحر فينفلق منه عديد التيارات الثورية الهادرة التي من شأنها أن تزلزل الطغيان.
ولا مصادرة على حق البرادعي، شخصيًا، في أن يرى ذاته الواحد الصحيح، دومًا، وسط غابةٍ من الكسور والأصفار التي أنهكتها الأسفار، أو أن يظن في نفسه، أو يظن فيه البرادعوية الجدد، أنه الحكمة المطلقة، والحنكة المطلقة، والعقل الثوري المحض الذي لا يجوز انتقاده، أو الاقتراب منه بكلمة.
لا غضاضة، كذلك، في أن يعتبر بعض الإسلاميين، المتبردعين حديثًا، في كل عطسةٍ منه عملًا ثوريًا، وفي كل نظرةٍ من بعيد إيجابيةً محرّكة تقض مضاجع السلطة، ولا بأس في أن يراه السيارة والقاعدون على الحافّة الوارد ودلوه الذي سيلتقط الثورة الغارقة في غيابة الجب.
لا بأس، أيضًا، في أن يترنّم بعضهم بأناشيد الثقل الدولي، والوزن النسبي، والقدرات الخارقة للشخص الذي لم يحظ أحد قط بما تساقط في حجره من فرص للقيادة والتغيير منذ ظهوره الأول قبل أكثر من عشر سنوات، والنتيجة كما نرى جميعًا: بالتغريد بدأ، وإلى التغريد عاد.
كما لا يمكن إنكار أن الرجل إن حضر في قلب المعادلة، بالجدّية والموضوعية اللازمتين، فإنه سيغيرها، وهذا ما دونته هنا مبكرًا، ومرارًا، وقلت بالنص "ونوجّه عناية سيادتك إلى أن مجرد اقترابك من المأساة المصرية الحالية لا يزال قادراً على إحياء آمال النفوس المتعبة في استعادة نسقٍ مفقودٍ في النضال السياسي، إنقاذاً لوطنٍ، أنت أول من يأسى على حاله.. كما أنه لا يزال قادراً على بث القلق والخوف داخل سلطةٍ تقتل معنى الوطن، وتدمّر مفهوم المواطنة".
والمشكلة مع السيد البرادعي، والذين معه، إنه ينهي عن أفعالٍ، يراها حماقات، ثم يفعلها هو، من دون أن يكون مسموحًا لأحد بحق الرد أو التصحيح أو التوضيح، فإن فعلها أحدٌ انطلقت الدفعة الجديدة من قوات حماية معسكرات الاصطفاف تصرخ وتنتحب وتخمش كل يدٍ تمتد بكلمة نقد.
مبكرًا جدًا قلت إن أكثر ما يشغل البرادعي العائد من سبات طويل هو إعادة هندسة الوقائع التاريخية، بما يظهره، وحده، الصواب، والكل خطأ. يطالب الجميع بعدم العودة إلى الوراء، ثم يعود هو، كما يفعل كلما أطل، مثلما فعل في حواره التلفزيوني، ثم تغريداته، ووقتها قلت "حسنًا، سيتوقف النابشون في الماضي عن ترديد ما تعتبره أكاذيب وافتراءات، يا دكتور برادعي، فهل تتوقف أيضاً عن لعبة الاستغراق في الماضي، بحثاً عن وثائق براءة من المشاركة في حاضرٍ معتم، يريد التأسيس لمستقبلٍ أكثر عتامة؟.
المشكلة الآن أن البرادعي لا يكتفي فقط بهذا الجنوح إلى الماضوية، فيستنزف ذاته في عملية اجترارٍ لا تنتهي للذكريات، وإنما يقع أيضًا في خطأ تجاهل أن آخرين كانوا هناك، عاشوا الأحداث وعرفوها ودوّنوها، ولديهم روايتهم التي يرونها صحيحة، كما ينحاز البرادعي لروايته الشخصية، ولا يقبل سواها.
أما مشكلة "أولتراس البرادعي الجديد" أنهم يستكثرون على الناس التحرّر من التابوهات والتخلص من مظاهر الوثنية السياسية التي تضع كل رافض أو مختلف أو منتقد في عداد خونة الثورة وأعداء الاصطفاف والحراك، في ممارسةٍ تتخذ شكلًا من أشكال المكارثية، باسم الثورة، وبما يرضي الله!
وإن كان من نصيحةٍ أخيرةٍ للبرادعي ومعسكره الجديدة، فهي أن يولّي وجهه شطر المستقبل، إن كان لديه ما يصلح للتفاعل معه، ويكفّ عن النبش في الماضي، ذلك أنه مليء بألغامٍ مدفونة، حتمًا ستنفجر في وجهه كلما استسلم لغواية النبش.