عودة إلى المنطقة أم جولة كاشفة لتراجع الهيمنة الأميركية؟
انتهت جولة الرئيس الأميركي، جو بايدن، أخيراً، في منطقة الشرق الأوسط، وزار خلالها إسرائيل وبيت لحم والسعودية، وحضر قمة أميركية عربية، شاركت فيها دول عربية، يفترض أنّها حليفة: مصر والأردن والعراق ودول مجلس التعاون الخليجي. ولأنّ الهدف الرئيسي من الجولة تأكيد العودة الأميركية إلى منطقةٍ تعتبرها الولايات المتحدة ذات أهمية جيوسياسية حيوية، كي لا تصبح في حالة "فراغ" يخشى أن تتمكّن قوى دولية منافسة من ملئه، فمن الطبيعي أن نتساءل عمّا إذا كانت قد تمكّنت من تحقيق الهدف المرجو منها، وما إذا كان يمكن القول إنّ الولايات المتحدة أصبحت الآن في وضعٍ يسمح لها بالاطمئنان إلى عودة نفوذها القديم في المنطقة؟
لتقديم إجابة دقيقة قدر الإمكان على هذا السؤال المحوري، ربما من المفيد أن نحاول أولاً استعادة الصورة التي كانت عليها علاقة الولايات المتحدة بالمنطقة إبّان فترة إدارة الرئيس السابق ترامب، ونقارنها بالتغييرات التي وعد بايدن بإدخالها على شكل هذه العلاقة ومضمونها، إبّان حملته الانتخابية، كي يكون بمقدورنا قياس حجم التغيير الذي تمكّنت جولة بايدن في المنطقة من تحقيقه بالفعل، مقارنة بحجم التطلعات التي هدفت إلى تحقيقها قبل انطلاق هذه الجولة في 13 يوليو/ تموز الحالي... ومعروفٌ أن ترامب كان قد نجح في إدخال تغييراتٍ عميقة على سياسة أميركا الخارجية تجاه منطقة الشرق الأوسط، شملت بعدين رئيسيين:
الأول: يتعلق بالموقف من قضايا حقوق الإنسان، حيث اعتقد أن ربط سياسة أميركا الخارجية بحقوق الإنسان يشكّل عائقاً كبيراً قد يحول دون تمكين الولايات المتحدة من تحقيق مصالحها على الساحة الدولية على النحو الأكمل، خصوصا حين تكون المنافسة محتدمةً مع قوى عالمية لا تؤمن أصلا بالديمقراطية، على الأقل في صيغتها الليبرالية الغربية، مثل روسيا والصين. ولأن ترامب رفع شعار "أميركا أولا"، فقد بدا مستعدّا للتعامل مع أي نظام سياسي في العالم يُبدي تجاوبا مع المصالح الأميركية، بصرف النظر عن موقف هذا النظام من قضايا حقوق الإنسان، وما إذا كان متّهما بانتهاكها داخل بلاده أم لا، وهو ما قوبل بارتياح شديد من معظم النظم العربية، خصوصا من النظامين السعودي والمصري، اللذين اعتمد عليهما ترامب اعتمادا رئيسيا في تمرير سياسته الخارجية تجاه المنطقة. لذا يلاحظ أن ترامب لم يتردّد مطلقا في تقديم غطاء سياسي لحماية ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، عقب تورّطه المباشر في اغتيال جمال خاشقجي داخل القنصلية السعودية في إسطنبول، ولحماية الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، المتهم بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، قبل وصوله إلى السلطة عام 2014 وبعده، من معظم منظمات المجتمع المدني العالمي.
كان هذا البعد في سياسة ترامب الخارجية محلّ انتقاد شديد من بايدن إبّان حملة انتخابات الرئاسة الأميركية في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2020، وفيها تعهد بجعل النظام السعودي "منبوذاً"، وبعدم وضع يده مطلقاً في يد محمد بن سلمان، الملوثة بدماء خاشقجي، كما تعهد بعدم إعطاء شيك على بياض للرئيس السيسي الذي كان يحلو للرئيس ترامب أن يطلق عليه "دكتاتوري الصغير". وفي سياق كهذا، كان من الطبيعي أن يتوقع بعضهم أن تشهد العلاقة الأميركية بالنظامين، السعودي والمصري، فتورا كبيرا بعد دخول بايدن البيت الأبيض.
أكدت جولة بايدن في المنطقة بما لا يدع مجالاً لأيّ شكّ أنّ السياسة التي يمارسها حالياً تجاه القضية الفلسطينية هي نفسها التي انتهجها ترامب
البعد الثاني: يتعلق بالموقف من القضية الفلسطينية، بصفة خاصة، ومن الصراع العربي الإسرائيلي، بصفة عامة، فقد اعتقد ترامب أن الوقت قد حان للتعامل مع المسألتين بنهج مختلف كليا، ومن هنا إقدامه على طرح "صفقة القرن" التي استهدفت تصفية القضية الفلسطينية. وعندما رفضت السلطة الفلسطينية هذه "الصفقة"، لم يتردّد في إغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن، وفي قطع مساعدات أميركية مقدّمة للسلطة ولوكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، في الوقت نفسه، بل ونقل السفارة الأميركية إلى مدينة القدس التي اعترف بها "عاصمة أبدية موحدة لدولة إسرائيل اليهودية". ولم يكتف بذلك كله، وإنما سعى أيضا إلى الالتفاف حول مبادرة السلام العربية والعمل على إسقاطها أو إفراغها من مضمونها، وذلك بالضغط على دول عربية عديدة لإيرام "اتفاقات إبراهام" من انتظار انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة عام 1967 وقيام الدولة الفلسطينية، وهو ما تنص عليه المبادرة. تعرّض هذا البعد في سياسة ترامب الخارجية للانتقاد أيضا من بايدن إبّان حملته الانتخابية، فقد وعد بالعمل على إعادة إحياء صيغة "حلّ الدولتين"، وبإعادة المساعدات الأميركية المقدّمة للسلطة الفلسطينية، وإعادة فتح مكتب منظمة التحرير، بل إنه ذهب إلى تأكيد أنه سيفتح قنصلية أميركية في القدس الشرقية، في خطوة بدت كأنها محاولة لإعادة التأكيد على أن إدارته ما تزال ترى في القدس الشرقية أرضا فلسطينية محتلة. لذا توقع كثيرون أن تشهد السياسة الخارجية الأميركية تجاه القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي تغيرا كبيرا في عهد بايدن، مقارنة بما كان عليه الحال في عهد ترامب.
عقب دخول بايدن البيت الأبيض في يناير/ كانون الثاني 2020، بدت السياسة الخارجية الأميركية وكأنها في حالة بحثٍ عن مبرّرات تتيح لها إعادة التموضع، وتحاول العثور على نقاط ارتكاز جديدة، تتسق مع المواقف التي جرى التعبير عنها إبّان حملة الانتخابات الرئاسية، غير أن حدثين مفاجئين ساعدا على ضخّ الرياح في اتجاه معاكس لكل التوقعات: الأول: اندلاع حرب جديدة في قطاع غزة (مايو/ أيار 2021)، استمرت 11 يوما، اضطر خلالها بايدن، على عكس ما كان متوقعا، لإجراء اتصال مباشر بالرئيس السيسي، طالبا منه المساعدة على التوصل إلى وقف لإطلاق النار، وبذل مساعيه الحميدة لإبرام هدنة طويلة الأجل تعيد الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل اندلاع القتال. الثاني: اندلاع الحرب في أوكرانيا في 26 فبراير/ شباط الماضي، ولأن قرار الرئيس الروسي، بوتين، استخدام القوة المسلحة ضد دولة أوروبية حليفة للولايات المتحدة شكّل تحديا سافرا ومباشرا للهيمنة الأميركية المنفردة على النظام الدولي، فقد بدت كل ردود أفعال إدارة بايدن كأنها مدفوعة بهاجس واحد، المحافظة على هذه الهيمنة بكل الوسائل الممكنة. وفي هذا السياق، أقدم بايدن على فرض عقوبات شاملة على روسيا، من نتيجتها اشتعال أسعار الطاقة، ما دفعه إلى إعادة حساباته مع كل الدول المنتجة للطاقة، سواء كانت النظم الحاكمة فيها حليفة أو غير حليفة. وفي تقديري، كان هذا الحدث في مقدمة الأسباب التي دفعته إلى تغيير موقفه من النظام السعودي والقيام بجولة في منطقة الشرق الأوسط.
صحيحٌ أنّ الهدف الرئيسي من جولة بايدن تمكين الولايات المتحدة من استعادة نفوذها التقليدي في الشرق الأوسط، لكنّه بدا هدفاً مستحيل التحقق
في سياق ما تقدّم، يمكن القول إنّ الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والحرب الروسية على أوكرانيا، ساهمتا في إعادة تشكيل رؤية بايدن تجاه منطقةٍ لم تكن تحتل موقعا متقدّما على جدول أعمال إدارته في بداية عهده, وكان يظن أن بمقدوره الانسحاب التدريجي منها، وإعادة تركيز جهوده على مناطق أخرى، في حالة تماسّ مباشر مع الصين، منافسه الأخطر على قيادة النظام الدولي. صحيحٌ أنّ الهدف الرئيسي من جولة بايدن في المنطقة تمكين الولايات المتحدة من استعادة نفوذها التقليدي في منطقة الشرق الأوسط، لكنه بدا هدفا مستحيل التحقيق، في ظل الأوضاع الإقليمية والعالمية السائدة، فالولايات المتحدة العائدة إلى المنطقة بدت مختلفة كليا عن الولايات المتحدة التي اعتادت أن تتعامل معها النظم العربية الحاكمة في المنطقة. ويكفي في هذا الصدد أن نقارن بين الاستقبال الذي حظي به دونالد ترامب في زيارته السعودية عام 2017 والاستقبال الذي حظي به بايدن في السعودية الأسبوع الماضي، لندرك أن الفرق بين الحالتين كان شاسعا. وقد لفت أنظار المراقبين بشدة غياب الملك أو ولي عهده في مراسم استقبال بايدن في المطار، بعكس الحال عند استقبال ترامب، فلم يسبق في تاريخ العلاقات الأميركية السعودية، في حدود علمي على الأقل، أن استُقبل رئيس أميركي في زيارة رسمية للسعودية بهذا المستوى المتدني الذي استقبل به بايدن، ما يدل على أن لدى معظم الأنظمة الحاكمة في العالم العربي، وليس النظام السعودي وحده، قناعة بأن الرئيس الأميركي يجيء إلى المنطقة مضطرا هذه المرّة، وأنه يحتاج دعمها بأكثر مما تحتاج دعمه.
على صعيد آخر، يمكن القول إن الشعوب العربية كانت تتطلع إلى تلمّس، ولو بعض الاختلاف الطفيف بين سياستي بايدن وسلفه ترامب، خصوصا تجاه القضية الفلسطينية، لكن جولة بايدن في المنطقة أكدت لها بما لا يدع مجالا لأي شك أن السياسة التي يمارسها بايدن حاليا تجاه القضية الفلسطينية هي نفسها التي انتهجها ترامب، أي أنها ترامبية بدون ترامب. لذا يمكن القول، من دون تردّد، إن جولة بايدن في منطقة الشرق الأوسط تعد كاشفةً لوصول الهيمنة الأميركية المنفردة على النظام العالمي إلى قرب النهاية بأكثر مما هي كاشفة عن قدرة الولايات المتحدة على ملء فراغٍ يعتقد بايدن أنّ منطقة الشرق الأوسط تشهده في المرحلة الراهنة، وهذا هو، أقله في تقديري، الدرس الذي يبدو أنّ الأنظمة العربية الحاكمة استخلصته بمجرّد أن صعد بايدن على سلم الطائرة عائداً إلى بلاده!