عن نظام خورخي واللاعدالة الرقمية الرشيدة

03 مارس 2023

(Getty)

+ الخط -

نظام خورخي أنتجته شركة إسرائيلية متخصّصة في القرصنة الإلكترونية، يخرق الأمان الرقمي، والمشاركة الرقمية المتوازنة بصورة متساوية بين الجميع، وهو خطر على العالم.

هذا ما كشفه تحقيق استقصائي أجراه اتحاد الصحافيين الدوليين وصحيفتا الغارديان البريطانية ولوموند الفرنسية، ومجلة دير شبيغل الألمانية، يروي تورّط الشركة في عمليات التخريب الإلكتروني، وترويج الأخبار الزائفة، والتلاعب في انتخابات جرت في أكثر من 30 دولة، باستخدام المعلومات المضلّلة على وسائل التواصل الاجتماعي.

يدير الفريق طال حنان، وهو عنصر سابق في القوات الخاصة الإسرائيلية، ويعمل بالتعاون مع عملاء وشركات أخرى ومع مراسلين سرييّن، وقد كانت خدماته متاحة لوكالات المخابرات والحملات السياسية والشركات الخاصة التي أرادت التلاعب بالرأي العام سرّاً، واستهدفت الانتخابات في أفريقيا، وأميركا الجنوبية والوسطى، والولايات المتحدة وأوروبا، وعلى الأرجح دول آسيا، والدول المجاورة لإسرائيل. امبريالية رقمية في وضعية المختلس تعمل من دون أثر.

ليست المرّة الأولى التي تكشف فيها "الغارديان"، في تحقيقات استقصائية عن "الانفلات الإلكتروني" الإسرائيلي، ودوره في إثارة الفوضى في العالم، من خلال نشر رسائل سياسية محظورة، وعبر أساليب التعبئة العابرة للحدود مع تعدّد أشكال مخالفة للقوانين، وممارسة اعتداءات إلكترونية تؤدّي إلى نزاعات وتداعيات دولية، وتؤدّي إلى تعثر بناء مجتمع المعرفة الذي كرّست مبادئه في القمة العالمية لمجتمع المعلومات (جنيف 2003/ تونس 2005).

تحدّد هذه المبادئ الأهداف العالمية ببلوغ المجتمع الرقمي العادل والمشترك للجميع تفاوتات، أدت إلى عرقلة تنفيذ خطة التنمية المستدامة لعام 2030، التي وافقت عليها حكومات العالم 2015. واللافت في البحث الاستقصائي الجديد مشاركة طاقم صحافي دولي متخصّص في مسألة "العدالة الرقمية الرشيدة"، في مواجهة الصحافة الورقية سطوة منافسة بروح الإنترنت. ويمكن التوقف عند البعدين، المادّي والقانوني، لهذه السيطرة المسيّجة بمصالح، بأن يكون الفضاء الإلكتروني خدمة عامة وموئلا للديمقراطية. ولكن ما يقترحه نظام خورخي يستوحي وظائف من الواقع الجديد الذي يخدم مصالح إسرائيل، والنفاذ إلى هدفها الاستراتيجي، إضافة معلومات محددة جغرافياً، ومرتبطة بمواقع تستهدفها، من دون النظر إلى الخراب الذي تتركه خلفها خارج محور التعاون حول العالم، بهدف رفع مستوى الأمن السيبراني، وتعزيز تبادل الخبرات، ومشاركة التجارب بين الدول، واحترام حق الخصوصية، وتبادل المعلومات بشكل تفاعلي بين الجميع.

يستخدم فريق “خورخي” برامج يمكنها التحكّم في جيش ضخم من آلاف الملفات الشخصية المزيفة على مواقع التواصل الاجتماعي

وتكشف التحقيقات حقائق ووقائع ستجبر السلطات وأصحاب الشأن على تعديل قوانين، أو استحداثها، أو استدراك مواقف بشكل أو بآخر. وبالإشارة إلى الأثر الذي تُحدثه في السياسة الخارجية، وبالمشاركة أيضا في صناعة السياسات المحلية، وباستغلال الأحداث، أو إيقاد دخانها، وما وراء الدخان، من اختراق الملفات والسجلات، والتلاعب بالمعلومات، أو حذفها، أو تزويرها، أو إتلافها، ومختلف الجرائم الرقمية.

فضيحة جديدة يستفيد منها مجتمع إسرائيلي عسكري، يضاف إليه مجتمع افتراضي له بناؤه وركائزه وأدواته، وشبكاته، وموارده، يؤثر على الخيارات الأساسية والاجتماعية، تأتي بعد سنوات من نشر تسريبات إدوارد سنودن، العميل السابق في وكالة الأمن القومي الأميركية، والغضب السياسي الذي أحدثته، وكذلك تسريبات "ويكيليكس" مراسلات دبلوماسية العام 2010، في الموقع الذي أسسه جوليان أسانج 2006. تكشف التحقيقات الاستقصائية عن تسارع في عملية عبور المعلومات الأوطان، وعن تكاثر العلاقات التي تبنى في مساحة عالمية خارج إطار الدولة الوطنية المعطيات التشريعية، ولو بشكل جزئي من رقابة الدولة ودورها التوسّطي في حالة إسرائيل (على اعتبار أنه يستحيل أن يكون هذا العمل من صنع رجل واحد "خورخي")، وتكاثر من يسمّون "الناشطين وراء الحدود". لم يردّ "خورخي" على أسئلة تفصيلية عن أنشطته وأساليبه، وعن خوادمه العملاقة لتخزين المعلومات. وعلى مدى ست ساعات من الاجتماعات المسجّلة سراً، تحدّث وفريقه عن كيفية جمع المعلومات الاستخبارية عن المنافسين، بما في ذلك استخدام تقنيات القرصنة للوصول إلى حسابات، متزايدة في السنوات الأخيرة، يسبّب الكشف عنها حرجا لإسرائيل، بسبب تصديرها الأسلحة الإلكترونية التي تقوّض الديمقراطية والاستقرار. ما نشر برهان آخر من دون تتبع حتى نظريات التآمر، أو المؤامرة، مع وقاحة إسرائيل التي تحاول أن تحتل الساحة المعلوماتية/ توتاليتارية رقمية.

يستخدم فريق “خورخي” برامج يمكنها التحكّم في جيش ضخم من آلاف الملفات الشخصية المزيفة على مواقع التواصل الاجتماعي، حتى أن لدى بعض الصور الرمزية حسابات أمازون مع بطاقات ائتمان ومحافظ بيتكوين، وحسابات بنكية، وبعض عمليات التضليل من خلال شركة "ديمومان إنترناشيونال"، المسجّلة على موقع تديره وزارة الدفاع الإسرائيلية، في محاولة لإضفاء المصداقية على الحسابات المزيفة.

لا بد من التعاون بين سائر أصحاب المصلحة في تشييد العدالة الرقمية ونزاهتها وتعزيز الثقة بشروط ممارستها لضمانة أمن العالم والناس

تضع الفضيحة جميع البلدان أمام تحدّياتٍ ترتبط بالتحكم التكنولوجي، وتزوير الانتخابات التي تعتبر قاعدة أساسية للممارسة الديمقراطية وقياس مستوى التغيير السياسي، ما سيقرع أجراس الإنذار، من فوضى في التحاليل وتضارب في الآراء والأفكار، فالتكنولوجيا ليست مكانا حياديا سياسيا. هنا حساسية توظيف الصيغة المصدرية وخطورته وتمويهه، إلى الانحياز لوجهات أخرى مستفيدة من وراء القناع، تواليها، وتعمل باسمها. يتطلب التعاطي مع التنمية الذكية، التعامل مع المصادر الصحافية ذكاءً، ووعيا، وخبرة، وحذرا، (أوقفت القناة الإخبارية الفرنسية "بي أف أم تي في"، مذيعها رشيد مباركي، وهو من أصول مغربية، على خلفية تحقيق في الارتباط بالمشروع الذي تديره الشركة).

يقول القرصان حنان (مستوحى مجازي من دور جاك سبارو): "نحن الآن منخرطون في انتخابات في أفريقيا.. لدينا فريقا عمل في ستة مكاتب في العالم، تدخّلنا في 33 حملة على المستوى الرئاسي، وفي مشروعين رئيسيين في الولايات المتحدة"، لكنه ادّعى عدم الانخراط مباشرة في السياسة الأميركية (عمل فريق "خورخي" سراً على السباق الرئاسي النيجيري في عام 2015، جنباً إلى جنب مع قصة "كامبريدج أناليتيكا")، ونزاعات تجارية في كندا وألمانيا وسويسرا والمكسيك والسنغال والهند والإمارات.

لا بد من التعاون بين سائر أصحاب المصلحة في تشييد العدالة الرقمية ونزاهتها وتعزيز الثقة بشروط ممارستها لضمانة أمن العالم والناس، وتوخّي الدقة، ومراعاة الموضوعية. تبقى مسألة الإجراءات والسياسات المتّخذة بحق شركةٍ تعمل بما يتنافى بوضوح مع مبادئ العالمية الإنسانية. على الأرجح الأشخاص، الأقل دراية بالقضايا المهمة والحقوق الرقمية، سيقودون إلى خيارات سياسية خاطئة، ما يهدّد مستقبل الديمقراطية في العالم.

يقظان التقي
يقظان التقي
إعلامي وأكاديمي ومترجم لبناني، له عدد من الكتب، دكتوراة في الدبلوماسية والعلاقات الدولية.