عن مسوّغات الحرب وأخلاقياتها
وضع المنتصرون في الحروب السابقة، خصوصاً بعد الحرب العالمية الأولى، وما تلاها من حروب، القواعد الناظمة لتصرّفات الجيوش في ميدان المواجهات، وتواضعت الدول على دليل عملٍ لقواتها بعد انتهاء المعارك بالسيطرة على مناطق حضرية، وألزمت الحكوماتُ جيوشَها أيضاً بمعايير سلوكٍ واضحة، وأحياناً قابلة للتأويل، تحدّد مسؤولياتها القانونية، تحظر بموجبها على سلطات الأمر الواقع الإتيان بأفعال معينة، مثل مصادرة الممتلكات أو نقل السكان وغير ذاك.
ولعل معاهدة جنيف الرابعة لعام 1949، وتعديلاتها لعام 1977، هما أكثر المواثيق الدولية تعبيراً عما تُسمى آداب الحرب وأخلاقياتها، وهي أعلى ما توصل إليه الضمير الإنساني المروّع بويلات الحرب العالمية الثانية، وأرفع ما عبرت عنه من وعي جماعي بضرورة تهذيب العملية الحربية وعقلنة نتائجها، والتقليل ما أمكن من تداعياتها على المدنيين في الدول المهزومة، وبالتالي تلافي مضاعفاتها على النظم والحقوق والقوانين السائدة في الأراضي المحتلة. وليس معنى ذلك أنه لم تكن للحروب، فيما مضى من عصور، معايير أخلاقية وقواعد قتال وآداب عسكرية متعارف عليها ضمناً. بل إن كل الحروب التي ملأت بطون كتب التاريخ، بأهوالها، ودماء عبيدها وأحرارها، كانت تجري بذرائع أخلاقية، ومبرّراتٍ يمكن تسويغها، حتى وإن كانت مثل هذه الذرائع مزوّرة، ومبرّراتها موضع شك.
لم يقدّم لنا التاريخ حرباً بين أمتين، أو مدينتين، أو دينين، منذ إسبارطة وأثينا وروما، وحتى كوريا وفيتنام والعراق، مجرّدة من معيار أخلاقي يبرّر لصاحب القرار الحربي دفع شعبه إلى أتون المعارك، وتكبّد التضحيات الجسام، من دون أن يرفع راية أخلاقية مقنعة، حتى ولو كانت من قبيل دفع خطرٍ محتمل، أو الذود عن حياض وطن مهدّد، بما في ذلك دفع شرٍّ متربّصٍ خلف الحدود، وبالتالي لم تقع حربٌ من غير ذريعة أخلاقية، يمكن تقبل كلفتها الباهظة، وتسويغ هدر الدماء والمقدّرات للفوز بها، ويخبرنا التاريخ أنه كثيراً ما هُزم قائد عسكري كبير، وفشل هجوم واسع، عندما كانت الحرب تتكشّف عن فرية، تفقد مسوّغها الأخلاقي، وتفشل في تبرير نفسها، سيما إذا ارتكب قادُتها جرائم حربٍ بشعة بحقّ المدنيين العزّل.
ومع أن معظم الحروب، إن لم تقل كلها، كانت ذات مبرّرات أخلاقية ملفقة، وجرت في غالبيتها لتحقيق أطماعٍ توسّعية، أو نهب ثروات أمةٍ أخرى، أو لإملاء عقيدة دينية أو نشر ثقافة أو فتح أسواق، مثل الحروب الصليبية والغزوات الاستعمارية الأوروبية، وكل قوة أخرى ترى أن مصالحها الخاصة تقع في مجالٍ حيويٍّ أوسع من حدودها الجغرافية، إلا أن كل الحروب القديمة والحديثة، بما فيها الحرب الدائرة منذ نحو سنة في أوكرانيا، جرت تحت مثل هذه الذريعة الأخلاقية متفاوتة المعايير بين زمن وآخر، من جانب قوة كبرى ضد أمة مجاورةٍ مستضعفة، وكل هذه الحروب انتهت بالفشل، عندما سقطت مسوّغاتها الأخلاقية.
وليس أدلّ على ذلك من الحرب الأميركية على العراق التي خيضت بذرائع أخلاقية ملفقة، بل وبدوافع اتّضح مبكّراً أنها لا أخلاقية أبداً، لنقول إن هذه الحرب قد انتهت في واقع الأمر، بعد أن رأينا رؤية العين المجرّدة الشواهد على السقوط المدوّي للرايات الأخلاقية المرفوعة في سماء القوة الغازية، أي الولايات المتحدة فائقة القوة والموارد، والسطوة الإعلامية، تهوي على الأرض، وتخسر الحرب، امتثالاً لهذا القانون الصارم لكل حربٍ فقدت مبرّرها الأخلاقي.
احتاج هنيبعل وهولاكو وفيليب دي أغسطس، ومن بعدهم نابليون وهتلر وموسوليني، وكل القادة التاريخيين الذين حاربوا خلف حدودهم، وقهروا شعوباً ومماليك مجاورة لبلادهم، وولغوا في دماء أعدائهم، احتاجوا جميعاً إلى مبرّرات أخلاقية، ومسوّغات يمكن التستر بها لفتح البلاد وقهر العباد، ولم يُهزم أيٌّ من هؤلاء وغيرهم إلا حين سقطت المبرّرات الملفقة، وتجرّدت حروبهم من كل ذريعة أخلاقية.
ولعل خسارة أميركا حرب فيتنام، قبل نحو 50 سنة، لم تكن ناجمةً عن هزيمة عسكرية على الأرض، بقدر ما نجمت عن هزيمةٍ أخلاقيةٍ دارت في شوارع المدن الأميركية، حين أسقط ملايين المتظاهرين مسوّغات تلك الحرب غير الأخلاقية، وسحبوا من بين أيدي جنرالاتها كل مسوّغ لإدامة حربٍ لم تعد في نظر الأميركيين اضطرارية، وهي تلك الخاتمة الحتمية التي سينتهي إليها الاحتلال الإسرائيلي فلسطين بالأمس، مهما طال به الزمن، والنهاية شبه المؤكّدة للغزو الروسي لأوكرانيا، حتى وإن كسب فلاديمير بوتين بعض الأرض بعض الوقت.