عن مبادرة عودة المنفيين المصريين

28 سبتمبر 2022

(أيمن صلاح طاهر)

+ الخط -

أقام سياسيون مصريون عديدون في فترة الاحتلال الإنكليزي في المنافي، خوفاً على أنفسهم من الملاحقة أو الاعتقال من الاحتلال، وكان عدد المصريين المنفيين في حينه (كما قدّره مؤرخون) يقترب من عدة آلاف، وهي أعداد كبيرة في تلك الفترة، وقد طارد الاحتلال هؤلاء السياسيين أيضاً في منافيهم، من أجل إيقاف أنشطتهم في فضح ممارساته وحشد الرأي العام الأوروبي ضده. الآن في عهد عبد الفتاح السيسي تشهد مصر أكبر وجود للمصريين في المنافي في تاريخها الحديث، وقد فرّوا من بطش النظام وقمعه، لكنه لم يتوقف عن مطاردتهم في منافيهم من أجل الضغط عليهم وترهيبهم، مستخدماً في ذلك أساليب وطرقاً عديدة لإجبارهم على الصمت، مثل عدم تجديد جوازات السفر وكذلك البطاقات الشخصية وغيرها من الوثائق، وهي الأدوات نفسها التي كان يستخدمها الاحتلال الإنكليزي ضد المنفيين المصريين في حقبة ثورة 1919.

من هنا نفهم أهمية ملف المنفيين بالنسبة للنظام المصري، وكذلك سبب دعوات من فترة إلى أخرى، تهدف إلى عودة الشباب المصريين في الخارج إلى وطنهم. وفي هذه الفترة، وبسبب قمة المناخ التي تعقد في مصر في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل يريد النظام أن يبيّض وجهه وينفي عنه الاتهامات بانتهاكات حقوق الإنسان، فمنذ أيام خرج علينا النائب المصري السابق، رئيس حزب الإصلاح والتنمية، محمد السادات، بمبادرة سياسية تهدف إلى عودة المصريين في الخارج إلى مصر. وإلى جانب أن هذه الدعوة غير رسمية، أي لم تصدُر من جهة رسمية من الدولة، إلا أنها بالتأكيد صدرت بإيعازٍ من الجهات الأمنية، فالسادات لا يستطيع أن يتحمّل عودة أحد من دون موافقة الجهات الأمنية، وتأمين العودة له، كما أنه لا يستطيع الخروج بهذه المبادرة بدون موافقة الأجهزة الأمنية، علماً أن السادات نفسه غير قادر علي حماية نفسه أو أعضاء حزبه من بطش الأجهزة الأمنية، فقد جرت إطاحته من البرلمان، وتم اعتقال أحد أعضاء حزبه (أيمن هدهود) وإخفاؤه قسرياً وتعذيبه حتى الموت. ويدلّ هذا كله على أن السادات لا يستطيع الخروج بمثل هذه المبادرة بدون موافقة الأجهزة الأمنية والتنسيق معها، وهذا يتوافق مع النشاط الذي يبذله السادات في التواصل مع نشطاء عديدين في الخارج، من أجل إقناعهم بالعودة إلى مصر. وقد نجح بالفعل في إقناع وتأمين عودة ثلاثة أو أربعة منهم.

تشهد مصر في عهد السيسي أكبر وجود للمصريين في المنافي في تاريخها الحديث، وقد فرّوا من بطش النظام وقمعه، لكنه لم يتوقف عن مطاردتهم

ولكن المبادرة المعلنة أخيراً حملت دلالات عديدة، سواء لما احتوته من بنود، أو إبرازها أهمية ملف المصريين الموجودين في الخارج، والذي يمثل صداعاً للنظام، إذ إن هؤلاء الأشخاص ليسوا تحت السيطرة المباشرة للنظام، وبالتالي هم مصدر قلق لديه، فالنظام يراهم دائماً السبب الرئيس في إثارة ملف حقوق الإنسان بالتحديد مع الدول الخارجية، وبالتالي، يشكّلون مصدر قلق للنظام في عملية فضحه وتوثيق الانتهاكات التي يقوم بها.

تتزامن الدعوة التي أطلقها السادات مع "الحوار المصري" الذي دعا إليه الرئيس في رمضان الماضي، وعلى إثره تشكلت لجنة الحوار الوطني (لم تقدم شيئاً يُذكر)، وكذلك لجنة العفو الرئاسي من أجل بحث ملف المعتقلين السياسيين، علماً أن المسألة لا تحتاج إلى لجنة عفو، فلدى النيابة العامة المعرفة بكل الملفات، كما أن من صلاحيات النائب العام الإفراج عن المعتقلين السياسيين. ولكن يبدو أن هذه اللجنة تأسست من أجل التواصل مع الأجهزة الأمنية لأخذ الموافقة على إطلاق سراح من يُطرح اسمه.

يبدو النظام أنه لا يزال متمترساً عند القواعد التي وضعها لنفسه بشأن تعميق الانقسام السياسي وممارسة الإقصاء في عملية الحوار

الناظر إلى توقيت هذه المبادرة وشروطها يرى أنها استهلاك للوقت ليس أكثر، كما أن شروطها التي وضعت هي نفسها التي أطلقتها لجنة الحوار، وهي الاعتراف بدستور 2014، وعدم صدور أي أحكام قضائية ضد الشخص يثبت تورّطه أو ممارسته للعنف، إلى جانب عدم انتمائه لأي جماعة إرهابية محظورة وفق القوانين ذات الصلة. والمتأمل في تلك الشروط يرى أنها تنطوي على تناقض كبير وازدواجية في المعايير، ففي وقتٍ انتهك فيه النظام دستور 2014 والتفّ على المواد المحصنة الخاصة بفترات الرئاسة، وقام بتغييرها من أجل فتح مدد الرئاسة للرئيس الحالي والبقاء حتى 2030 في السلطة، فإنه يريد من الآخرين احترام شيءٍ لم يحترمه هو في المقام الأول. كما أن الشروط الأخرى عن ممارسة العنف، وعدم صدور أحكام تدينهم في ذات الشأن، وعدم الانتماء للجماعات المحظورة (يقصد جماعة الإخوان المسلمين بالتحديد)، وبغض النظر عن عدم استقلال السلطة القضائية وهيمنة السلطة التنفيذية عليه، وعدم نزاهة المحاكمات وتلفيق القضايا المختلفة، التي قامت بها الأجهزة الأمنية، فإن تلك الشروط، بصيغتها التي جاءت عليها، تعكس عدم جدّية النظام في فتح المجال العام أو إعطاء أي دور مستقبلي للمعارضة، كما أنه يغلق الطريق أمام احتمالية حدوث مصالحة وطنية في المستقبل، فالنظام، على ما يبدو، لا يزال متمترساً عند القواعد التي وضعها لنفسه بشأن تعميق الانقسام السياسي وممارسة الإقصاء في عملية الحوار، وبالتالي الإبقاء على عملية الاستهداف للمنتمين لجماعة الإخوان المسلمين والمقرّبين منهم، وهذا يدلّ على نية النظام أيضاً عدم تغيير نهجه فيما يتعلق بحقوق الإنسان أو تحسين أوضاعها، فلو أراد النظام القيام بحوار حقيقي فالواجب أن يكون الحوار مع من مارسوا العنف أولاً. وفي تجربة الحوار التي قام بها نظام حسني مبارك خلال التسعينيات مع الجماعة الإسلامية خير دليل، إذا أراد النظام بالفعل القيام بعملية انفتاح سياسي من أجل تخفيف الاحتقان الداخلي، وتجنّب عدم حدوث أي انفجار شعبي ستكون له توابعه، ليس على النظام فقط، بل على المنطقة كلها.

منذ جاء السيسي إلى السلطة في 2014 وهو يخطط للبقاء أطول مدة ممكنة (وتعديل الدستور أكبر دليل على ذلك). لذا حاول تجنّب الأخطاء التي وقع فيها الرؤساء السابقون عليه، مثل أنور السادات ومبارك، وأن يستفيد من العوامل التي أدّت إلى إطالة أمد نظاميهما، فكل من السادات ومبارك حاولا استخدام عامل الوقت واللعب عليه لإطالة أمد أنظمتهما، وهو ما أجاد السيسي فعله، لكي يطيل عمر نظامه، مع الأخذ في الاعتبار أن كلاً من السادات ومبارك كان لهما من الشرعية التاريخية والسياسية، إلى جانب التجربة السياسية، ما هو أعمق بكثير من السيسي وتجربته، وبالتالي سمح هذا الأمر بإطالة أمد نظاميهما. على أن السيسي وقع في الخطأ الذي حاول سابقوه تجنّبه، وهو استعداء الجميع، ففي إحدى فترات حكمه حينما تشكلت معارضة كبيرة ضده في المنفى، أدرك السادات خطأه، فقام بالعفو عن عديدين منهم وسمح لهم بالعودة إلى مصر. وقد أدرك مبارك خطأ السادات، لذا حاول تجنّب استعداء الجميع أو معاداة الجميع. ولم تكن لديه معارضة في المنفى كالتي كانت في فترة ضد السادات، أو بالصورة التي يوجد بها معارضون من جميع الأطياف والتيارات السياسية ضد السيسي في الوقت الراهن. على أنه يجب التذكير بأنه حينما استعدى السادات الجميع ضده مرة أخرى في أحداث 1981 وشن حملة اعتقالات واسعة طاولت كل رموز المعارضة، انتهى الأمر باغتياله وانتهاء فترة حكمه.

BA733789-23B4-4A69-9D4A-CB7E100A9A4B
تقادم الخطيب

أكاديمي، باحث مصري في جامعة برلين، مشارك في الحراك السياسي المصري منذ 2006؛ ومسؤول ملف الاتصال السياسي في الجمعية الوطنية للتغيير سابقاً.