عن فيلم "ريش"
ليس لأنّ المصادفة أو الحظ قد دفعا بسيدةٍ مغمورةٍ تهوى التمثيل، لتصبح حديث الإعلام، بعد تجسيدها شخصيةً ليست بعيدة عن شخصيتها في الواقع؛ وهي شخصية الأم والزوجة المنكسرة والمظلومة وقليلة الحيلة في فيلم مصري روائي طويل يحصل على جوائز عالمية. ولكن لأن هذه الشخصية قد لامست ألماً خفياً في نفس (وروح) كل امرأةٍ تعيش ظروفها، فقد أصبح هذا الفيلم مثيراً للجدل. وبغضّ النظر عن تفاوت الظروف من سيّئ إلى أسوأ أو أقل سوءاً، فالزوجات مثيلات هذه الزوجة التي طحنها الفقر، منذ المشهد الأول حتى المشهد الأخير، نتعثّر بهن في كل مكانٍ منسيّ في الواقع. ولا تجسّدهن الأفلام السينمائية المصرية في السنوات الأخيرة، إلى درجة أنني، وبكل صدق، حين زرت مصر في الصيف الفائت، ورأيت التغير الذي اعترى سطح القاهرة وقشرتها؛ بحيث تمت تغطية المناطق المهمّشة والعشوائية التي يدكّها الفقر والبؤس في الكباري (الجسور) والمشاريع العمرانية ذات الواجهات المضيئة والزاهية التي تشبه غلاف قطعة حلوى لامعاً، ولكن قطعة الحلوى انتهى تاريخ صلاحيتها، وتهدّد من يلتهمها ويغريه شكلها الخارجي بألم حادّ في بطنه، على أقل تقدير.
جاءت موجة الانتقاد الشديدة للفيلم من ممثلين يشاركون في أفلامٍ تصرّ على تصوير الطبقة المخملية في مصر، والتي أصبحوا ينتمون إليها. ومن أكبر منتقدي "ريش" الممثل شريف منير، على الرغم من أن انطلاقته كانت في دور ابن الحارة المهمّش في فيلم "الكيت كات"، مؤكّداً أنّ الفقراء في مصر يعيشون في أحسن حال، في ظل الجمهورية الجديدة، وقد خُصّصت لهم شقق مفروشة على أرفع مستوى، حسب تعبيره.
الفقر الذي كشف عنه فيلم "ريش" هو الصورة الحقيقية التي يجب ألا نهرب منها لأي بلدٍ يعيش ظروف التداعي السياسي والاقتصادي. ووجود المصفقين والمطبلين لأي نظام سياسي فاشل يجعل هذه الصورة تتّسع وتغوص تحت الأرض، وتبقى القشرة التي تخدع الرائي من بعيد، مثل سرابٍ بقيعةٍ تحسبه ماء. ومن يحاول من أهل الفن أن يصوّر لك أن الوضع ليس بهذا السوء فلأنه أصبح في سعةٍ من العيش، بسبب أفلامه الرخيصة والساذجة التي تعتمد على الكوميديا الساقطة والأفيهات التي يجري تصويرها في المناطق الساحلية السياحية الجديدة، والتي شهد كثيرٌ منها حوادث اغتصاب وتحرّش بفتياتٍ فقيراتٍ وفدن للعمل خادماتٍ أو نادلاتٍ من تلك الفئة المهمّشة القابعة تحت القشرة الزائفة، معتمدةً على الباذنجان المقلي طوال أيام الأسبوع، مثل حال الزوجة التي تحوّل زوجها إلى دجاجة، بفعل ساحرٍ أراد أن يضفى بعض البهجة على حفل عيد ميلاد طفلهما. وكان الزوج قد تعمّد أن يدعو مديره في العمل، لكي يحصل على هديةٍ قيمة، حين ينزل المدير من مقامه العالي، ويزور البيت المتهالك البائس. جاء لحضور الحفل، وهو يضع نظّارة شمسية فوق عينيه، ولم يتخل عنها، مع أن الوقت كان ليلاً، وأنه في البيت وليس في الشارع. تعمّد صنّاع الفيلم هذا، لكي يوصلوا رسالة عن الحاجز الفاصل بين الفقراء والأغنياء. ولم يمنعه غناه من أن يتحرّش بالزوجة، بعد اختفاء الزوج ومراودتها عن نفسها، ومحاولته النّيل منها بإصرار، على الرغم من أنها كانت تعتقد، بسذاجتها، أنّه يساعدها من أجل ما وصلت إليه من بؤس.
تقرّر، في النهاية، بفعلٍ بائس أيضاً، القضاء على فكرة أنّ هناك زوجاً قد يعود، مستمرّة في حالة قهر وكفاح، لا تشعرك أنّك ترى فيلماً، وإنّما كاميرا خفية لقاع مجتمع مزيف، لم تفلح إلا قلة من الأفلام المصرية أن يكشف عنه، فالواقع المصري المرزي ما زال في حاجةٍ لمزيد من الأفلام، على شاكلة "ريش" الذي يصوّر الواقع كما هو، وحجب هذا الواقع إساءة للفن وهبوطٌ بمستواه.