عن غزّة... آخر القلاع
تُذِّكر السيناريوهات الإسرائيلية الموضوعة الآن لقطاع غزّة بتجربة المقاومة الفلسطينية في لبنان، وخروج منظمة التحرير الفلسطينية والفصائل المقاومة من بيروت، بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان واحتلال عاصمته سنة 1982. يومها، أدّى ذلك الخروج إلى تراجع المشروع الوطني الفلسطيني بقدر كبير، إلى أن جاءت الانتفاضة الفلسطينية الأولى (انطلقت من غزّة) والانتفاضة الثانية، وأعادتا له بعض القوة التي تمثلت في الاعتراف بالشعب الفلسطيني وبحقه في دولة مستقلة، وصولاً إلى اتفاق أوسلو الذي أسّس لشكلٍ من الإدارة الذاتية. يتكرر اليوم ذلك السيناريو مع الحرب الإسرائيلية القائمة على غزة التي أكملت شهرها الرابع، والتي حين شنّها الإسرائيليون قالوا إنهم سيقضون على "حماس" وعلى المقاومة في غزة التي باتت بحقّ آخر قلاع المقاومة العربية والفلسطينية للمشروع الإسرائيلي.
لا يمكن إدراك مقدار الثقل الذي تشكّله غزة، والذي شكلته تاريخياً، على صدور قادة الاحتلال إلا عبر استحضار حلم رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، عندما قال: "أتمنّى أن أستيقظ ذات يوم من النوم وأرى غزّة وقد ابتلعها البحر". إلا أن هذا القطاع الفلسطيني الذي لا تتجاوز مساحته 365 كيلومترا مربعا بقي عصياً على البحر وعلى أحلام رابين وجرائم جنوده وأسلحتهم الفتاكة، وعلى حروب الاحتلال السبعة منذ انسحابه من القطاع سنة 2005، وكان هدفها دفعه إلى الاستسلام، إلا أنه وبدلاً من الاستسلام واليأس راكمَ من عوامل القوة والإرادة، ما مكّن مقاومته من تنفيذ عملية طوفان الأقصى اللافتة التي حملت رمزيات عديدة، وكشفت الكثير، والتي ربما ستكشف أكثر في المستقبل.
سارع الغرب إلى نجدة دولة الاحتلال معنوياً ومادياً، وغامر بالتورّط في جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب
لعل أهم ما كشفته العملية كان الكشف الخطير، أن الماضي الاستعماري الذي ظنّ كثيرون أن دول الغرب قد خرجت منه ما زال متغلغلاً في قلب مؤسّسات صناعة القرار فيه، وفي طيّات السياسة الغربية التي تظهر علينا بأردية الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان واحترام إرادة الشعوب. كما بيّنت أنه عندما شن الإسرائيليون الحرب الحالية على الشعب في غزّة لم تكن إسرائيلية فحسب، بل كانت حرب الغرب أيضاً، والذي خشيَ على إسرائيل من الزوال. إذ اندفع الغرب للمشاركة في الحرب بأشكال عدّة، نتيجة الرمزية الضاغطة التي أظهرتها عملية طوفان الأقصى، وهي رمزية التحرير، فأدرك أن إرادة التحرير ما زالت في وجدان هذا الشعب وعقله، وليس إرادة المقاومة وحدها. هذا التحرير الذي يُعدُّ كابوساً مستجداً صدّع رأس قادة الغرب ومنع عنهم راحة البال، بعدما ظنّوا طويلاً أن حلم تحرير الأرض المحتلة بات في طيّ النسيان والاستسلام. لذلك سارع الغرب إلى نجدة دولة الاحتلال معنوياً ومادياً، وغامر بالتورّط في جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، فاستمر في تقديم الأسلحة القاتلة للإسرائيليين، في الوقت الذي كانت تحاكَم فيه إسرائيل في محكمة العدل الدولية، وتُوجَّه إليها الاتهامات باقتراف تلك الجرائم.
شعب يحمي المقاومة ويرفض النزوح، على الرغم من كل الحروب، ويحتفظ بالحلم الدائم، حلم التحرير
لم يكن الانسحاب الإسرائيلي من غزة وتفكيك المستوطنات فيها، سنة 2005، إلا بسبب إدراك الإسرائيليين أن لا هذا الشعب يستسلم ولا البحر يبتلع الأرض التي يقيم عليها. وجاء فوز "حماس" في الانتخابات التشريعية سنة 2006، ليؤكّد أن الشعب قد اختار الجهة التي تبنّت المقاومة، ولم يختر السلطة لأنه رأى فيها رجوعاً عن المقاومة، ورأى فيها الاستسلام والخضوع للاحتلال، وأدرك أن حلم التحرير سيندثر على أيادي رموز هذه السلطة، فخسرت في انتخاباتٍ جرت بحضور مراقبين دوليين أقرّوا بنزاهتها. وفي هذا الجو الحاضن للمقاومة، استطاعت الأخيرة أن تبني قلعتها؛ تحت الأرض في الأنفاق، حيث صناعة الأسلحة النوعية في ظل الحصار والمراقبة والتجسّس على مدار الساعة، وتدريب مقاومين أشداء في ظل ظروف القلة والعوز، وفوق الأرض شعب يحمي المقاومة ويرفض النزوح، على الرغم من كل الحروب، ويحتفظ بالحلم الدائم، حلم التحرير الذي لا يتأثر بتطبيع الأشقاء ولا باستسلام الإخوة وتنسيقهم الأمني.
بعد التمعّن في واقع السلطة الفلسطينية التي يريد لها الاحتلال أن تحكم غزة، يمكن تصوّر حال قطاع غزّة في اليوم التالي للحرب، وفق المخطّط الإسرائيلي، تلك السلطة التي حالت حتى دون خروج الفلسطينيين في مناطق سيطرتها بمظاهرات للتضامن مع القطاع، وساهمت في إفشال عمليات عسكرية ضد الاحتلال، وربما ساهمت في كشف مقاومين وأبلغت عنهم، عملاً باتفاق التنسيق الأمني الذي يجمعها مع الاحتلال. لذلك، إذا استطاع الإسرائيليون تمكين السلطة من قطاع غزّة، ستحاول القيام بما عجز عنه الاحتلال، وسيتحوّل هذا القطاع من قلعة للمقاومة ومواجهة المشروع الإسرائيلي، إلى كيان منزوع السلاح وهشٍّ أمنياً، بعد أن كان منيعاً على الإسرائيليين. ومن المرجح أن يتسلل الاستيطان ويعود إلى أرضه، ويبدأ الإسرائيليون بقضمه وعزل قراه ومدنه عن بعضها وجعلها جزراً متناثرة، كما فعلوا بالضفة، عبر مصادرة أراضي الفلسطينيين وبناء المستوطنات فوقها، وإقامة الجدار العازل والطرق الالتفافية، وغيرها من الإجراءات التي ستجعل القطاع يتحوّل بمقاومته من رافع للمشروع الفلسطيني التحرّري إلى مكان لدفن هذا المشروع، وربما إلى الأبد.
اقترفت إسرائيل مجازر غير مسبوقة بحقّ أهل غزة، وقتلت عشرات الآلاف منهم، وهجّرت مئات الآلاف
رأى المصريون والأردنيون بأمّ أعينهم أنه لا يمكن الوثوق بهذا الكيان الذي بيّنت عملية طوفان الأقصى أن لديه خططاً سيغدر عبرها بمن وثقوا فيه. لذلك رأينا أن الإسرائيليين لم يخجلوا، بحكم العلاقات التي تربطهم مع هذين البلدين، من الإعلان عن خطتهم التي ظهرت وكأنها معدّة من قبل ولها أسس ودوافع، لتهجير سكان غزّة إلى مصر وسكان الضفة إلى الأردن، وكأن هذين البلدين من دون قرار أو سيادة. وإذا كان هذا موقع أصدقائهم عندهم، فما هو موقع السلطة ومصيرها، وهي التي لا ينظر إليها الإسرائيليون، في النهاية، سوى أنها كيانٌ مؤقت، وأنها زائلة، سيتخلصون منها عندما تنتهي مهمتها في إعانتهم في القضاء على المقاومة.
اقترفت إسرائيل مجازر غير مسبوقة بحقّ أهل غزة، وقتلت عشرات الآلاف منهم، وهجّرت مئات الآلاف، ومنعت الغذاء والماء والدواء عنهم، وجرفت المدن والقرى والأراضي، ولم تَسلم حتى المقابر من جرافات جيشها، وذلك كله بهدف كسر المقاومة ودفع الشعب إلى الاستسلام وترك أرضه والهجرة إلى مصر وغيرها، إلا أن الشعب احتفظ بإرادة الحياة على هذه الأرض، ورفض مغادرتها، كما احتفظ بالمقاومة. وأثبتت هذه الحرب، وجميع الحروب الإسرائيلية على غزّة، أن المقاومة فكرة، والفكرة لا يمكن لأيٍّ كان أن يقضي عليها. لذلك بدا واضحاً أن من مصلحة الجميع المحافظة على هذه الفكرة في قلعةٍ، ليس مهمّاً مدى صغر المساحة التي تقوم عليها، بل المهم قوة الدفع التي يمكن للمقاومين أن يزودوها بها لكي تنطلق وتعود فتحلق في سماواتٍ غابت عنها طويلاً.