04 نوفمبر 2024
عن حسن الترابي
قبل عام، قال حسن الترابي إن أجله يقترب، وإنه يسأل الله الاطمئنان على حال البلاد (السودان)، قبل أن يتوفّاه الله. وأغلب الظن أنه، رحمه الله، توفي أول من أمس، غير مطمئنٍ على بلده، فالتفاصيل المتواترة من هناك لا تيسّر حالاً مُرضياً وواعداً. وفي الوسع أن يُقال إنّ قسطاً من المسؤولية عن الرثاثة الحادثة في السودان يقع على الترابي نفسه. ولمّا كان أهل مكة أدرى بشعابها، فللسودانيين أن يقولوا ما يرون بشأن تلك المسؤولية، أو ذلك القسط منها على الأصح. أمّا وأنّ المقام، الآن، هو رحيل الزعيم السياسي الشهير، فإنه تُستحسن إطلالةٌ من نوع آخر على شخصه، لكنك إذا ما حاولتَها، تجد نفسك مربَكاً من فرط ما جال عليها الراحل من أدوارٍ ومواقع ومسوؤليات، وما أقام عليها من طموحاتٍ وتحولاتٍ وانعطافات، أكثر من خمسين عاماً. إذ يُدهشك، في سيرته، عدد الأحزاب والتكتلات والجبهات التي أنشأها، أو كان وراء إنشائها، وتزعّمها ثم غادرها وأنشأ غيرها، منذ كان أميناً عاماً لجبهة الميثاق الإسلامية في العام 1964، وصولاً إلى استكشافه، أخيراً، محاولةً حذرة، ل "توحيد" الإسلاميين في السودان. أما خصومته مع نظام الكولونيل جعفر نميري طوراً، وتحالفه معه طوراً آخر، وعمله وزيراً ومستشاراً سياسياً فيه، فهذا كله يتّسق مع شراكته، لاحقاً، مع الجنرال عمر البشير في انقلابٍ عسكريٍّ شهير، ثم في قيادة الدولة عشر سنوات، ثم التباعد والانشقاق المعلومان، وفي غضونهما جولاتٌ من حبس الترابي، وجولات حوار وتلاق بينه وبين النظام.
جاز القول إنها السياسة التي لا تفترض ثباتاً دائماً على خيارٍ ما، ولا على مناهضة خيارٍ آخر. وجاز القول إن الترابي لم يكن يطمئن إلى الظل، ولا يرتاح لغير السلطة (والزعامة)، ولمناهضة السلطة أيضاً إذا كان المقتضى يتطلبها. وإذا حاولتَ أن "تُموقع" الترابي، في السنوات الثلاث الماضية، مع نظام البشير وحزبه أو ضدهما، فإنك تورّط نفسك في "حيص بيص"، ولن يُسعفك حبل معاوية في تفسير الموضوع، فحبال شيخنا قصةٌ أخرى، إنها مشدودةٌ، غالباً، إلى نظرية المصلحة التي يُصادف لها الترابي تأصيلاً في الفقه والتفكير السياسي الإسلامييْن. نظام البشير، في غضون رئاسة محمد مرسي مصر ومناخات الربيع العربي، في العام 2012، ميؤوسٌ منه، ولا بد من عمل السودانيين لإزالته تماماً، وأولوية حزب المؤتمر الشعبي (أسّسه الترابي وتزعّمه) إسقاطه بوسائل سلمية، والمصالحة معه صعبة جداً. وبعد عامين، يشارك الحزب في "الحوار الوطني"، ويُستضاف في المؤتمر العام لحزب المؤتمر الوطني الحاكم (كان من مؤسّسيه قبل التنازع مع البشير)، ويطالب بحوار جامعٍ يقود إلى "وحدة وطنية"، وذلك قبل أسابيع من توقيعه على وثيقةٍ لأحزاب المعارضة تدعو إلى إسقاط النظام. وفي أثناء هذه الأحجية، ترى حسن الترابي، قبل شهور، يخاف على السودان من دوامة عنفٍ وسفك دماء، أسوأ من العراق والصومال، بحسبه، في حال حدوث ثورة أو تغيير بالقوة.
هذا مقطعٌ في مرحلةٍ أخيرةٍ من أرشيف الترابي العريض، وفي هذا الأرشيف أنه، مبكراً، لم يرتض انضواءً يتبع فيه شيوخ "الإخوان المسلمين" في القاهرة، إذ ما دام أن في وسعه أن يكون متبوعاً، وفي مقدوره أن ينشئ كياناتٍ وتكتلاتٍ ومجاميع إسلاميةٍ متى شاء، فلماذا لا تتأتى له الزعامة التي يشتهيها، ولا سيما أنه لا تنقصه البلاغة ولا القدرة على الخطابة، ولا الدراية بالمظانّ والأصول، وبالمستحدثات أيضاً، ولا بالغرب وسياساته، وهو الذي درس في لندن والسوربون. توسّل في هذا كله وغيره أن يصير داعيةً وفقيهاً، مختلفاً (أجاز إمامة المرأة الرجل في الصلاة). وسياسياً براغماتياً محيّراً. بل ودَّ أيضاً إشهار "أمميةٍ إسلامية"، إبّان كان يجمع في الخرطوم عروبيين وقوميين ويساريين بلا عدد، وينشئ منهم "المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي"، بعد 1991. سقى الله على تلك الأيّام، تُرى، كيف كان يتذكّرها حسن الترابي، وهو يُلاعب، في شهوره الأخيرة، عمر البشير، وهو على معرفةٍ بخسرانه حذاقته إيّاها.
جاز القول إنها السياسة التي لا تفترض ثباتاً دائماً على خيارٍ ما، ولا على مناهضة خيارٍ آخر. وجاز القول إن الترابي لم يكن يطمئن إلى الظل، ولا يرتاح لغير السلطة (والزعامة)، ولمناهضة السلطة أيضاً إذا كان المقتضى يتطلبها. وإذا حاولتَ أن "تُموقع" الترابي، في السنوات الثلاث الماضية، مع نظام البشير وحزبه أو ضدهما، فإنك تورّط نفسك في "حيص بيص"، ولن يُسعفك حبل معاوية في تفسير الموضوع، فحبال شيخنا قصةٌ أخرى، إنها مشدودةٌ، غالباً، إلى نظرية المصلحة التي يُصادف لها الترابي تأصيلاً في الفقه والتفكير السياسي الإسلامييْن. نظام البشير، في غضون رئاسة محمد مرسي مصر ومناخات الربيع العربي، في العام 2012، ميؤوسٌ منه، ولا بد من عمل السودانيين لإزالته تماماً، وأولوية حزب المؤتمر الشعبي (أسّسه الترابي وتزعّمه) إسقاطه بوسائل سلمية، والمصالحة معه صعبة جداً. وبعد عامين، يشارك الحزب في "الحوار الوطني"، ويُستضاف في المؤتمر العام لحزب المؤتمر الوطني الحاكم (كان من مؤسّسيه قبل التنازع مع البشير)، ويطالب بحوار جامعٍ يقود إلى "وحدة وطنية"، وذلك قبل أسابيع من توقيعه على وثيقةٍ لأحزاب المعارضة تدعو إلى إسقاط النظام. وفي أثناء هذه الأحجية، ترى حسن الترابي، قبل شهور، يخاف على السودان من دوامة عنفٍ وسفك دماء، أسوأ من العراق والصومال، بحسبه، في حال حدوث ثورة أو تغيير بالقوة.
هذا مقطعٌ في مرحلةٍ أخيرةٍ من أرشيف الترابي العريض، وفي هذا الأرشيف أنه، مبكراً، لم يرتض انضواءً يتبع فيه شيوخ "الإخوان المسلمين" في القاهرة، إذ ما دام أن في وسعه أن يكون متبوعاً، وفي مقدوره أن ينشئ كياناتٍ وتكتلاتٍ ومجاميع إسلاميةٍ متى شاء، فلماذا لا تتأتى له الزعامة التي يشتهيها، ولا سيما أنه لا تنقصه البلاغة ولا القدرة على الخطابة، ولا الدراية بالمظانّ والأصول، وبالمستحدثات أيضاً، ولا بالغرب وسياساته، وهو الذي درس في لندن والسوربون. توسّل في هذا كله وغيره أن يصير داعيةً وفقيهاً، مختلفاً (أجاز إمامة المرأة الرجل في الصلاة). وسياسياً براغماتياً محيّراً. بل ودَّ أيضاً إشهار "أمميةٍ إسلامية"، إبّان كان يجمع في الخرطوم عروبيين وقوميين ويساريين بلا عدد، وينشئ منهم "المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي"، بعد 1991. سقى الله على تلك الأيّام، تُرى، كيف كان يتذكّرها حسن الترابي، وهو يُلاعب، في شهوره الأخيرة، عمر البشير، وهو على معرفةٍ بخسرانه حذاقته إيّاها.