عن ثلاث شموسٍ فلسطينية
من بين عددٍ لا حصر له من النجوم والأقمار والشموس المضيئة في سماء فلسطينية ملبّدة بغيوم سوداء كثيفة، سطعت في الأسبوع الماضي ثلاث شموس كبيرة، في ثلاثة مدارات متفرّقة، بدّدت، بفيض وهجها، ظلاماً مقيماً في الديار المحتلة، وأشعلت بأنوارها المشعة نفوس قومٍ يحاربون ببسالة، أينما وجدوا، ضد الظلام واليأس والظلمة، يعتصمون بالصبر والصمود والمقاومة، كلٌّ على طريقته الخاصة، ويواصلون، كلٌّ وفق قدراته الذاتية، ملحمة البقاء والمضاء والتمكين، وكأنهم يعزفون سمفونية الحياة الكفاحية الخالدة في إطار فرقةٍ موسيقيةٍ واحدة.
الشمس الأولى التي توهّجت بقوة هائلة، وغمرت سماء فلسطين وأرضها بسحر نارها المقدّسة، كانت شيرين أبو عاقلة، صاحبة الاسم الذي لا يحتاج تعريفاً بعد اليوم، حيث بدت في يوم استشهادها أكثر إشراقاً من أي يوم مضى في حياتها، وغدت يوم جنازتها أشد حضوراً في الحياة السياسية والثقافية والنضالية الفلسطينية، مما كانت عليه من ذي قبل، إلى الحد الذي صارت فيه هذه الفارسة الفدائية رمزاً وطنياً باذخاً، وتحوّلت إلى أيقونة صحافية ملهمة، وأصبحت علامة فارقة في نضال شعبها، أعطته زخماً جديداً ووجهاً جميلاً، وفوق ذلك كشفت وجه احتلال فاشي يقتُل بدمٍ بارد، ويطارد الجنازات أمام عدسات المصوّرين برعونة شديدة.
قبل أسبوعين، كانت هذه الزاوية تحتفل بثلاث مقدسيات، بينهن شيرين، يرفعن الرأس ويبعثن الفخر في النفس. ومن حُسن الحظ أن أولاهن قرأت النص، ورأت بأم عينها جانباً صغيراً من الحب الكبير الضارب عميقاً في وجدان أبناء شعبها، وفق ما بدت عليه مظاهر هذا الحب، يوم استشهادها، على طول الطريق الممتدّ من جنين إلى القدس (150 كيلومتراً)، وتجلى بأضعاف مضاعفة يوم مواراتها الثرى، حيث الألوف المؤلفة، ممن رفعت شيرين رؤوسهم ربع قرن، راحوا يردّون الجميل لها، ويرفعونها هم على رؤوسهم هذه المرّة، في مشهد تكريمي مهيب، لم يحظ بمثله، سابقاً، سوى القادة الكبار.
الشمس الثانية تمثلت في رشيدة طليب، عضو الكونغرس الأميركي، وهي فلسطينية الأصل من قرى غرب رام الله، والتي طلبت من زملائها في مجلس النواب الوقوف دقيقة صمت احتراماً لروح شيرين، فاستجاب لها المشرّعون الأميركيون، في سابقة غير مسبوقة، من هذا المجلس الذي كثيراً ما وقف وصفّق لنتنياهو بحرارة، ومنحه دعماً أكبر مما كان يناله رئيس حكومة الاحتلال في الكنيست ذاته، الأمر الذي يشير إلى بداية تحول ذي مغزى في سياسة الدولة العظمى تجاه القضية الفلسطينية، ويدلّ على الفوز بنقطة ثمينة يمكن البناء عليها، في الموضع الذي يُعتبر صخرة وجود الدولة العبرية، ويُعدّ قلعتها الحصينة.
وما كان لهذا التحوّل الطفيف، والمهم في الوقت نفسه، أن يحدُث في زمن ما بعد دونالد ترامب، بمعزلٍ عن تغيّراتٍ متدرّجة في المشهد الأميركي حيال الحالة الفلسطينية، تلك التي قادها اليسار في الحزب الديمقراطي، وأسهم في تعزيزها مشرّعون من أمثال بيرني ساندرز وإليزابيث وارن، ناهيك برشيدة طليب التي أدّت القسم وهي ترتدي الثوب الفلسطيني المطرّز، ودخلت قاعة الكونغرس غير مرّة، وهي تُزيّن كتفيها بالكوفية (يُطارد لابسوها أحياناً في قطاع غزة)، ولعل مبادرة رشيدة الأخيرة في الكابيتول هيل، في يوم من أيام فلسطين المجيدة، أقرب ما تكون إلى إشراقة شمس أخرى تخلّقت على يدي هذه المرأة الفلسطينية المقاتلة في الساحة السياسية الأكثر أهمية لكلا الطرفين على كسب العواطف والمواقف الأميركية.
الشمس الثالثة التي بزغت في مدار آخر تولّدت على يد قابلة جميلة اسمها بيلا حديد، عارضة الأزياء الأميركية الفلسطينية الشهيرة في الغرب، على نحو أكثر من شهرتها في الديار العربية، وما كان لامرئ قليل الاهتمام بالموضة أن يُدرك مدى شدّة توهج قرص هذه الشمس، لو لم يُفاجأ ليلة إعدام شيرين بمقالة منشورة في صحيفة هآرتس العبرية، يزعم صاحبها أن كيانه الغاصب يواجه ثلاثة أخطار وجودية مميتة، ليس أولها القنبلة النووية الإيرانية مثلاً، وإنما فاعلية هذه الفاشينست، التي يُتابعها نحو 52 مليون إنسان على منصة إنستغرام، حيث تضع بيلا على صدر صفحتها وسم "الحرية لفلسطين من البحر إلى النهر" متسائلاً: أين هي الكتائب التي تم حشدها لمحاربة هذا الوحش المعادي للسامية؟
وأحسب لو أن صاحب مقال "هآرتس" تأخر يوماً، ورأى ما رأى في القدس، لقال إن الدولة العبرية باتت تواجه أربعة أخطار وجودية، في مقدمتها خطر ملاحقة شيرين لقتلها على مدار الساعة.