عن بلدٍ فقد مكانته ويوشك أن يفقد مكانه

عن بلدٍ فقد مكانته ويوشك أن يفقد مكانه

16 يناير 2024
+ الخط -

ثمّة قضايا لا يصحّ استخدامها لتصفية الحسابات السياسية. وأيا كان موقفُ معارضي النظام المصري منه، فلم يكن عاقلٌ، فيما أعلم، يتمنّى أن تكون الرواية الأكثر تصديقا بين المصريين والعرب أن مصر شريكة في حصار قطاع غزّة وأهله. وهي رواية موجودة ورائجة قبل تصريح "العدو" أخيرا في محكمة العدل الدولية. يستنكر إعلاميو النظام المصري وكتائبه الإلكترونية، بصيغةٍ تكاد تكون واحدة، من دون اجتهادٍ مع "السكربت الموحّد"، كيف تصدّقون إسرائيل؟ وفي السؤال إقرارٌ واضحٌ بأن رواية الصهاينة محلّ تصديق من الأغلبية في مصر. ولذلك يجري وصم من يصدّقون، وتهديدهم، في الآن نفسه، بأنهم من الإخوان المسلمين. فما الذي يعنيه تصريح العدو أن النظام المصري هو المسؤول، وحده، عن منع دخول المساعدات من معبر رفح؟
دعك من تصديق الصهاينة أو تكذيبهم. وتعالَ نتحدّث عن واقع يخبرنا، في أغلب الأحيان، بأن "الانطباعات أقوى الحقائق"، (ما بالك لو كان الانطباع مبنيّا على حقائق؟) وفي مصر، الآن، قابلية شعبية، غير مسبوقة، لتصديق أي روايةٍ سلبيةٍ عن النظام المصري وولاءاته وقدراته وذمّته المالية… إلخ. ولذلك يكرّر النظام، في عجز واضح، اتهام نقّاده، ابتداء، بأنهم، جميعا، إخوان أو من لجان الإخوان، أو مراكيبهم، أو أي شيء مضافا إليهم، في جملة غير مفيدة، فالعدو هو الإخوان، حصرا، من دون غيرهم من أعداء الخارج (إسرائيل مثلا) الذين لم يعد النظام المصري قادراً على مجرّد اتهامهم، ولو في خطاباتٍ شعبوية، لزوم الاستهلاك المحلي، فهو أضعف من أن يتحمّل مجرّد الإحراج المحتمل جرّاء ذلك. ولو افترضنا، جدلا، وهو افتراضٌ لا نملك عليه دليلا واحدا متماسكا، مع الأسف، أن ادّعاء الجانب الإسرائيلي على حليفه المصري يشبه ادّعاءاته على حركة حماس، فلا يسعنا أن نتغافل عن تكذيب "العالم" ادّعاءات ذبح "حماس" أطفال الإسرائيليين واغتصابها نساءهم. فيما صدّق الجميع، تقريبا، ادّعاءات إسرائيل على مصر بأنها المسؤولة وحدها عن معبر رفح ومنع دخول المساعدات الضرورية إلى أهل غزّة، على ما في ذلك الادّعاء من مبالغة. ولذلك ليس السؤال: كيف تصدّقون إسرائيل يا مراكيب الإخوان يا خوَنة؟ إنما لماذا كان تصديق الرواية الإسرائيلية هو الأقرب إلى توقعات المصريين أو العرب أو المتابعين لحرب إبادة غزّة في العموم؟
يمكننا القول هنا، من دون أي تجنٍّ أو تصفية حسابات سياسية، غير مقبولة في سياقٍ كهذا، أن النظام المصري عجز، تماما، عن تصدير مجرّد الانطباع بأنه مع غزّة وأهلها.. عجز عن تجاوز الاتهام بالخيانة، الذي تحوّل إلى محض حقيقة في وعي الجماهير العربية، إلى تبرير ضعف موقفه بضعف الإمكانات.. عجز، منذ اللحظة الأولى، عن التصرّف بوصفه دولة، ولا نقول دولة جوار تربطها علاقات قومية ودينية وتاريخية، ومصالح أمنية، مع الفلسطينيين، إنما دولة فحسب، فنقطة آخر السطر. ولذلك، وأيضا منذ اللحظة الأولى، يصدّق أغلب المتابعين في مصر والوطن العربي أن النظام المصري سيكون مع الجانب الإسرائيلي، فالنظام المصري، قطعا، مع تهجير أهل غزّة. ينفي النظام، فيزداد اقتناع ملايين المصريين والعرب بضلوعه في جريمة تهجير أهل غزّة إلى سيناء مقابل مليارات الدولارات. ينفي إعلام النظام، مسؤولوه، مؤيدوه، حتى معارضوه، يخرج منهم من يستبعد موافقة قادة الجيش المصري على تهجير أهل غزّة إلى سيناء، لأسباب أمنية محضة، من دون أن يغيّر ذلك من قناعاتٍ راسخةٍ لدى أغلبية المصريين والعرب، كما تابعنا، من إمكانية وقوع الجريمة، بل وسعي النظام المصري، المأزوم اقتصادياً، إلى إنجازها. فإذا كانت مكانة أي بلدٍ تعتمد، ابتداء، على مدى تأثيره خارج حدوده، فهذه هي مكانة مصر، هنا والآن، وبعد عشر سنوات من "الإنجازات"، ومع اتجاه الدولة المصرية إلى بيع أصولها، فإننا نوشك بعد فقدان المكانة أن نفقد المكان نفسه، لتتحوّل الدولة المصرية إلى مجرّد "أثر"، قد يهدمه مالكه الجديد، ليحوّله إلى "كوبري" إلى العاصمة الإدارية الجديدة.