عن انفصام مثقّفين عرب

عن انفصام مثقّفين عرب

27 نوفمبر 2023

كمال داود (يمين) وعمر يوسف سليمان والطاهر بن جلّون

+ الخط -

يُفترض في المثقف الطليعي، العضوي، أن يكون مسؤولاً، في اشتباك دائم مع الاحتلال، والتخلّف والاستبداد، والانتهازية، والفساد، وثقافة التضليل، وأن يكون على دراية بمشاغل الناس وهمومهم، وأن يقف إلى جانب المستضعفين والمظلومين، بقطع النظر عن دينهم أو لونهم أو جنسهم أو عرقهم أو انتمائهم الأيديولوجي أو الطبقي. ويقتضي الواجب الأخلاقي من المثقف أن يكون ضمير المجتمع، وأن ينحاز إلى القضايا العادلة، وأن لا يقف على الربوة، مكتفياً بلزوم الحياد إزاء قضايا مشكلية، مثل الحرب والتعذيب والاستعمار والعنصرية والاستبداد. بل عليه أن يُناضل بالقلم، والكلمة، وبالتظاهر، وصناعة الأفكار للذود عن قيم إنسانية عليا مثل الحق في الحياة، والعيش في كنف الحرية، والعدالة، والسلام، والكرامة، والدفاع عن حتمية العيش المشترك، وضرورة احترام غَيرية الآخر داخل الاجتماع البشري.
وفي زمن الحرب، تحتاج الجموع إلى مثقفين يُدركون خطورة الحدث ومآلاته، ويبذلون الجهد من أجل الدفاع عن كيْنونة الإنسان مطلقاً، وعن حقوق المدنيين والأبرياء الذين كثيراً ما تبطش بهم آلة الحرب الضارية، ويعانون ويْلات التشريد، والتجويع، والتهجير القسري، والقصف العشوائي. ويضطلع المثقف ههنا بأدوار توثيق الحرب، وتحليل خلفياتها وأبعادها، واستباق نتائجها، والتنبيه إلى مخاطر استمرارها. وينتصر مبدئياً لحقّ الشعوب في التخلّص من سطوة الاحتلال، وتقرير مصيرها، والدفاع عن أوطانها.
والملاحظ في المشهد الثقافي العربي إبّان اندلاع الحرب بين الفلسطينيين والإسرائيليين عقب عملية طوفان الأقصى (07/10/2023) التي كلّفت إسرائيل خسائر كبرى في العدد والعتاد، أنّ مثقفين عرباً كثيرين انحازوا إلى الشعب الفلسطيني في تصدّيه للانتهاكات الإسرائيلية، وأقرّوا حقّه في المقاومة والعودة، وتقرير المصير، وحقّه في إقامة دولته المستقلّة كاملة السيادة. في حين لاذ آخرون بالصمت، واكتفوا بمتابعة العدوان الإسرائيلي الغاشم على غزّة من أبراجهم العاج، ملتزمين حالة حياد سلبية مشبوهة. في المقابل، انصرف مثقفون عرب آخرون، على قلّتهم، إلى التسليم بالسردية الإسرائيلية للأحداث، وإدانة الفلسطينيين والاستخفاف بتضحياتهم على كيْفٍ ما. ويمكن الوقوف في هذا السياق عند مواقف ثلاثة مثقفين فرنكفونيين، ينحدرون من أصول عربية ويقيمون في باريس، كتبوا مقالات بشأن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة، صدرت في مجلة لوبوان الفرنسية. ويتعلّق الأمر بما صدر عن المغربي الطاهر بن جلّون، والجزائري كمال داود، والسوري عمر يوسف سليمان.

بعد تتويج بن جلون جائزة "غونكور"، أصبح يتحاشى الكتابة عن الصراع العربي الإسرائيلي، ويتلافى صراحة إعلان انحيازه إلى الشعب الفلسطيني

قبل فوزه بجائزة غونكور سنة 1987، كان الطاهر بن جلّون مناصراً للقضية الفلسطينية، وكتب في مجلّة أنفاس (1966 - 1972) نصوصاً في هذا الخصوص. ونشر تحقيقاً في صحيفة لوموند سنة 1974 عن رحلته إلى القدس، وكتب قصيدةً عن الألم الفلسطيني إبّان مجزرة تل الزعتر في 1976. وبعد تتويجه بالجائزة، أصبح يتحاشى الكتابة عن الصراع العربي الإسرائيلي، ويتلافى صراحة إعلان انحيازه إلى الشعب الفلسطيني. بل طلع على القرّاء أخيراً (13/10/2023) بمقال في "لوبوان" انحاز فيه بشكل لافت للرواية الإسرائيلية بشأن عملية طوفان الأقصى التي دانها بشكل صريح، مندّداً بحركة حماس، قائلاً: "أنا عربي ومسلم بالميلاد والثقافة والتعليم المغربي التقليدي، لا أستطيع أن أجد الكلمات لأعبّر عن مدى رعبي مما فعله مسلحو حماس باليهود (...). أشعر بالرعب لأن الصور التي رأيتها هزّت أعماق إنسانيتي". واللافت أنّ إنسانية صاحب "ليلة القدر" تحرّكت عندما هاجمت فصائل فلسطينية إسرائيليين، معظمهم من المستوطنين وعساكر المحتل في المناطق المحاذية غزّة. لكنّها لم تتحرّك عندما جرى تجريف منازل فلسطينيين، وهدم بيوتهم، وطردهم منها، وحرق مزارعهم، وإتلاف محصولهم من القمح والزيتون، وتحويل أراضيهم إلى مستوطنات إسرائيلية. كذلك فإنّ مشاعره الفائضة لا تلتفت إلى قتل جيش الاحتلال فلسطينيين على الهوية في الشوارع، والحواجز، والمعابر. ويبدو أنّ بن جلّون لا يرى القاتل إلّا فلسطينياً، وإلّا فلماذا صمَتَ عندما شنّت إسرائيل أربع حروب شعواء على قطاع غزّة؟: الرصاص المصبوب (2009/2008)، وعمود السحاب (2012)، والجرف الصامد (2014)، وحارس الأسوار (2021)، ولِم لَمْ يعتَرِه شعور بالرعب وقتها؟! والحال أنّ تلك الهجمات أدّت إلى مقتل آلاف المدنيين الفلسطينيين، وجرح وتشريد آخرين وهدم منازلهم. كذلك أحدثت أضراراً كبيرة في البنية التحتية الفلسطينية. وبناءً عليه، إنسانية الطاهر بن جلّون انتقائية، وتمييزية لا محالة. 
وفي السياق نفسه، لم يفُت الرجل التعبير عن تضامنه مع الرهائن الإسرائيليين، قائلاً: "ولعل احتجاز الرهائن والتهديد بإعدامهم، لا يؤدّيان إلا إلى تفاقم غضبنا جميعاً". لكن فاته أن يُشير إلى آلاف الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، وقد اعتُقِل معظمهم بطريقة تعسّفية، وأُخذوا بالشبهة، ولم يتمتّعوا بمحاكمة عادلة، وبعضهم يعاني حرمان زيارة أهله والإهمال الطبّي. ولا أدري لماذا لا يُثير ذلك غضب الطاهر بن جلّون الذي مضى بعد ذلك إلى محاكمة حركة حماس على طريقته، قائلا إنّها "عدوّ الشعب الفلسطيني قبل أن تكون عدوّ الإسرائيليين، لأنها حركة لا تملك حسّاً سياسياً". وهذا الحكم الانطباعي/ المعياري لا يجد له سنداً واقعياً، قوياً. فإذا كانت "حماس" عدوّ الشعب الفلسطيني، فبماذا نفسّر اتّساع قاعدتها الشعبية والتفاف الناس حولها في الداخل الفلسطيني.

حرص كمال داود في مقال له على تجاهل السياق التاريخي لأحداث 7 أكتوبر، والأسباب التي أنتجتها بغاية إظهار إسرائيل في صورة الضحية

ولم يقف بن جلّون عند هذا الحدّ، بل زايد على وزير الحرب الإسرائيلي الذي نعت (لاحقاً) سكّان غزّة بـ"حيوانات بشرية"، فكتب الروائي المعروف: "الحيوانات ما كانت لترتكب ما ارتكبته حماس"، وهو بذلك لا يتماهى مع الإسرائيلي فحسْب، بل يتجاوز ذلك ليتقمّص دور المثقف الاستعراضي الذي يريد أن يكون أكثر ملَكيةً من الملك. ولم ينس بن جلّون، شأن مثقفين عرب مصابين بعقدة تضخّم الأنا، أن يُنصّب نفسه وصيّاً على القضية الفلسطينية، مشيراً إلى أنّها "قد ماتت بل تمّ اغتيالها في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023". ولا يسلم هذا النعي لصاحبه. ذلك أنّ القضية الفلسطينية باقية وتتمدّد محلّياً وعربياً ودولياً، وتحديد مصيرها من اختصاص الشعب الفلسطيني الذي تصدّى للاحتلال طوال 75 سنة، وما انفكّ متشبّثاً بأرضه، حريصاً على استرداد حقوقه المستلبة.
تماهى كمال داود، الفائز بجائزة غونكور (2015) أيضاً مع السردية الإسرائيلية بشأن عملية طوفان الأقصى، معتبراً، في مقال، في المجلّة نفسها بعنوان "هزيمة القضية الفلسطينية"، أنّ العملية تندرج في سياق "معاداة اليهود واليهودية"، والحال أنّ الفصائل الفلسطينية، وفي مقدّمتها حركة حماس، تعتبرها ردّ فعل على الانتهاكات الإسرائيلية المتتالية ضدّ الفلسطينيين، وعلى سياسات الأسرلة والاستيطان، ولا تستهدف اليهود بالضرورة. ومن ثمّة، حرص الكاتب على تجاهل السياق التاريخي لأحداث 7 أكتوبر، والأسباب التي أنتجتها بغاية إظهار إسرائيل في صورة الضحية وغضّ الطرف عن معاناة الفلسطينيين من ممارسات الاحتلال. وزعم أيضاً أنّ "الفلسطيني وضع نفسه بالأمس في خدمة الإيرانيين، وحزب الله، والمصريين، واليوم يضع نفسه في خدمة حركة حماس ذات المرجعية الإسلامية". وفي ذلك انفصام عن الواقع وتجاهل من الكاتب لحقيقة أنّ مشروع المقاومة الفلسطينية، بمختلف أشكالها، نهض من الداخل الفلسطيني، ولم يأتِ على دبّابة من الخارج. ومعلوم أنّ المطالبة بتحرير الأراضي المحتلّة وإقامة دولة مستقلّة بناءً على مواثيق الأمم المتحدة هو مدار إجماع الكل الفلسطيني، وليس مشروع فصيل أو حركة بعينها.

الطاهر بن جلّون وكمال داود وعمر يوسف سليمان، يبحثون عن وجاهة ما، وعن اعتراف الآخر الغربي بهم لقاء انحيازهم إلى إسرائيل

أمّا عمر يوسف سليمان، فركّز في مقال في المجلّة نفسها (14/10/2023) بعنوان "نشأتُ وأنا أكره اليهود"، على مسألة معاداة السامية، وفكرة مظلومية اليهود وانتشار أحكام مسبقة وعبارات دونية بشأنهم في المجال التداولي العربي، وبلور ذلك لديه انطباعاً قبْلياً مغلوطاً عنهم. ويبقى ما ورد في المقال، تجربة شخصية، لا يمكن تعميمها على كلّ العرب والمسلمين، فالثابت أنّ اليهود يعيشون في تمام الأمان والاندماج في عدّة دول عربية وإسلامية، مثل تونس، والمغرب، وإيران، وتركيا. وكان أحرى بالكاتب البحث في أسباب التوتر بين العرب واليهود في بعض المناطق، وهي تعود، في جانب ما، إلى الحروب التي خاضتها إسرائيل ضدّ دول عربية، وتماديها في الاعتداء على الفلسطينيين وإنكار حقوقهم المشروعة.  كذلك إنّ النعوت الدونية الموجّهة ضدّ العرب والمسلمين والفلسطينيين كثيرة في الغرب وفي إسرائيل. ولعلّ آخرها وصم الوزير الإسرائيلي غالانت الغزّيين بالحيوانات، ودعوة آخر إلى إبادتهم بقنبلة نووية. وهي عبارات إقصائية لم يلتفت إليها الكاتب، ولم يكترث لمعاناة الفلسطينيين والمظالم المسلطة عليهم، لأنه يريد أن يرى الظواهر من زاوية واحدة.  
ختاماً، بدت معالجة الكتّاب المذكورين حدث "طوفان الأقصى" وما تبعه من عدوان إسرائيلي غاشم على المدنيين في غزّة مبتورة، أهملت المعطيات التاريخية الحافّة بالحدث، وسلّمت بالسردية الإسرائيلية. ويمكن تفسير ذلك بأنّ ثلاثتهم يبحثون عن وجاهة ما، وعن اعتراف الآخر الغربي بهم لقاء انحيازهم إلى إسرائيل. ومعلوم أنّ في ذلك تقديماً للمصلحة الذاتية على القراءة الموضوعية للوقائع التاريخية.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.