عن المحاكمات السياسيّة في تونس

11 يناير 2023
+ الخط -

تُعتبر المحاكمات السّياسيّة علامة واسمة للأنظمة الشموليّة، وتنتشر خصوصا في البلدان التي لا يتمتّع فيها القضاء بقدرٍ معتبرٍ من الاستقلالية، ويخضع لهيمنة السّلطة التّنفيذية. وتنبني المحاكمات السّياسيّة على أخذ النّاس بالشبهة، واقتيادهم إلى أروقة المحاكم وغياهب السّجون بسبب آرائهم السّياسيّة وخلفياتهم الأيديولوجيّة، ونقدهم النّظام الحاكم. والأصل في البلدان التّقدّميّة عموما، والدّيمقراطيّة خصوصا، أنّ حرّية التّفكير مضمونة والحق في التّعبير مكفولٌ بموجب الدّستور. وذلك في مجتمعات مفتوحة، تؤمن بثقافة الاختلاف، وتحكمها أنظمة سياسيّة، تقرّ بالتّعدّدية الحزبيّة، وحتميّة التّنافس السّلمي على السّلطة، وتُنصت لأصوات معارضيها كما لأصوات مؤيديها. لكنّ الواقع في السّياق العربي خلاف ذلك. فما زال كثيرون يحاكَمون على خلفيّة ما يُعرف بـ"جرائم الرأي" بسبب معارضتهم النّظام القائم. والنّاظر في تاريخ تونس الحديث يتبيّن أنّ المحاكمات السّياسيّة كانت وما زالت سيفا مسلطا على رقاب المعارضين وأصحاب الرّأي الآخر، المخالف للنّظام الحاكم.

لقد هيمن الرّئيس الرّاحل الحبيب بورقيبة على الفضاء العامّ، واستأثر بالزّعامة السّياسيّة في البلاد بعد الاستقلال (1956) ولم يسمح لمعارضيه بمنافسته على السّلطة. بل منح نفسه صلاحيّات واسعة، وعدّل الدّستور ليحكم تونس مدى الحياة. ووظّف القضاء للتّضييق على خصومه، فتوزّع أغلبهم بين السّجون والمقاصل والمنافي. واتّسعت دائرة المحاكمات السّياسيّة في عهده بشكل غير مسبوق، فشملت نقابيين وحقوقيين، ويساريين وقوميين، وليبراليين وإسلاميين. وما زال كثيرون يذكرون محاكمات"الفلاقة"، و"اليوسفيين"، ومناضلي حركتي آفاق والعامل التّونسي وقيادات الاتّحاد العام التّونسي للشّغل، وكذا الملاحقات القضائيّة والأمنية ضدّ حركة الدّيمقراطيين الاشتراكيين، وأنصار حركة الاتّجاه الإسلامي. واشتدّت وتيرة المحاكمات السّياسيّة بتنصيب بورقيبة "محكمة أمن الدّولة"، سيئة الذكر، التّي اختصّت غالبا بتكييف تهم خطيرة ضدّ المعارضين للنّظام الحاكم وإصدار أحكام ثقيلة في شأنهم، توقّفت بسببها حياة كثيرين، وتشرّد آخرون، وضاعت حياتهم بين الزنازين والمعتقلات، وفقدوا أسرهم ومواقع عملهم، وأعزّ ما يملكون. فقط، لأنّهم عارضوا الحكم الشّمولي للزعيم الرّاحل، وحلموا بدولةٍ ديمقراطيّةٍ، تشاركيّةٍ، عادلة.

ولم يختلف الرّئيس المخلوع زين العابدين بن علي عن سلفه كثيرا، فقد غلبت على عهده المحاكمات السّياسيّة، وما يُعرف بـ"قضاء التّعليمات"، فحكم الجنرال البلاد بقبضةٍ من حديد حتّى حوّلها إلى سجن كبير، فكلّ حزب معارض فعليّا ممنوع، وكلّ قولٍ مخالف للحاكم بأمره هو محلّ إدانة، وكلّ من لا يصفّق للرّئيس ولا ينتمي إلى أشياعه هو مدار شبهة ومشروع معارض خطير. لذلك كانت الجمهوريّة زمن حكم بن علي دولة بوليسيّة بامتياز، فقد احتكر الجنرال وأتباع الحزب الحاكم المجال العام ووسائل الإعلام، وجرى تشويه المعارضين على اختلاف توجّهاتهم الأيديولوجية صباح مساء. ونالت حركة النّهضة، ذات المرجعيّة الإسلاميّة، النّصيب الأكبر من المحاكمات السّياسيّة، فجرى زجّ الآلاف من قادتها ومريديها في غياهب السّجون سنين طويلة، فشملت المحاكمات العشوائية وقتها القُصّر والنّساء وتلاميذ المدارس الثّانوية. وذلك في إطار ما تسمّى سياسة "تجفيف المنابع" واستئصال الإسلاميين من المشهد السّياسي خصوصا، والعمراني عموما. وطاولت حملات التّنكيل أيضا قادة حزب العمّال التّونسي وأنصاره، والنّاشطين في الحزب الدّيمقراطي التّقدّمي الذين عانوا ويلات المتابعات اليوميّة والمحاكمات الجائرة.

معظم التونسيين لا يرون في محاكمة مُعارِض على خلفيّة آرائه السياسيّة إنجازاً عظيماً، فالحدث لن يُحسِّن مقدرتهم الشّرائيّة

لم يقف الدّكتاتور عند ذلك الحدّ، بل ضيّق على إعلاميين، وحقوقيين، ومحامين، وهرسل رموز جمعيّة القضاة، لأنّهم استبسلوا في كشف سطوة النّظام التّسلطي الأحادي وانتهاكات الدّولة القامعة. وأفضى الجهد النّضالي الجمعي إلى انتفاضة النّاس ضدّ دولة تكميم الأفواه ومصادرة الحقوق المدنيّة، فخرج الآلاف في ثورة 2011/2010 التاريخية إلى الشّوارع رافعين شعارات "ارحل"،"حرّيات، حرّيات، دولة البوليس أُوفَاتْ (انتهت/ سقطت)"، "شغل، حريّة، كرامة وطنيّة". ولم تنفع الجنرال ابن علي وقتها خطاباته المرتبكة، المعتذرة، ولا عبارة "فهمتكم" المتأخرة. إذ أفلت الشّارع من يده وأعوانه، وخرج النّاس عليه، فلم يصمد طويلا رغم سطوته المعهودة، وفرّ من البلد إلى غير رجعة.

ودشّن التونسيون، بمختلف مكوّناتهم الفكريّة والأيديولوجيّة والحزبيّة والمدنيّة بعد رحيل الدّكتاتور ابن علي عشرية الانتقال الدّيمقراطي (2021/2011)، وهي عشريّة الحريّات بامتياز، فخلالها تحرّر المواطن من رهاب السّلطة، وظهر بدل الإنسان المكمّم الإنسان المعبّر، فازدهرت في تونس بشكل غير مسبوق أشكال التّعبير والتّنظّم، ومظاهر التّثاقف والتّحاور، والاحتجاج. وانتقل المواطن عمليّا من ضحيّة للسّلطة الحاكمة وملحق بها إلى فاعل فيها ومؤثر عليها، ففرض المواطنون عبر تشكيلاتهم المدنيّة دستور الثورة (2014)، وضمّنوه حريّة الضمير، وضرورة التّداول السّلمي على السّلطة وتوزيع الصّلاحيّات بين السّلطات الثّلاث على نحو يضمن الرّقابة المتبادلة بينها، وحصّن دستور الثّورة الحرّيات العامّة والخاصّة، حتّى غدت حريّة التّعبير والتّفكير والنّقد بصوتٍ عالٍ أعدل الأشياء قسمة بين النّاس. وكفّ الرّئيس عن كونه كائنا متعاليا عن جمهور المحكومين، فارتفعت نسبيّا القداسة عن الرئاسة التي غدت تكليفا لا تشريفا. وحَدث أن خسر رئيس الجمهوريّة الباجي قايد السبسي قضيّة رفعها ضد مواطن، فدلّ ذلك على استقلاليّة معتبرة للقضاء زمنئذ، وعلى تخفّف القاضي من وطأة السّلطة التّنفيذية. وللتّاريخ، لم يشهد ذلك العقد محاكمات سياسية بارزة، بل شهد ازدهار ثقافة الاختلاف داخل الاجتماع التّونسي، وقيام صحوة رأي عارمة.

وظنّ جلّ التّونسيين بعد الثّورة أنّهم ودّعوا إلى غير رجعة زمن المحاكمات السّياسيّة. ومع وصول الرئيس قيس سعيّد إلى الحكم (2019)، اعتبر كثيرون أنّ الرّجل ضامن لاحترام حقوق الإنسان، نظرا إلى خلفيّته القانونيّة، ووعده النّاس بالمحافظة على مكاسب الثّورة. كما صرّح مرارا بأنّ "المسّ بحريّة التّعبير خطّ أحمر"، وأنّ "العودة إلى مربّع الاستبداد أمر محال". لكنّ المتابع للشأن التّونسي منذ قيام ما يعرف بمسار 25/7/2021 يلحظ تواتر إحالة معارضين على القضاء، على خلفيّة مواقفهم السّياسيّة وتوجّهاتهم الحزبيّة وأنشطتهم الاحتجاجيّة. وبدا لافتا أنّ حركة النّهضة، ذات المرجعيّة الإسلاميّة، في مقدّمة الأحزاب التّي طاولتها موجة المحاكمات أخيرا، فقد تمّت إحالة عدد من قادتها من الصفّ الأوّل (راشد الغنوشي، نور الدّين البحيري، علي العريض (مرارا على أنظار قاضي التّحقيق، وذلك على خلفيّة قضايا تتعلّق بأدائهم في إدارة تجربة الحكم خلال العقد المنقضي.

ظنّ جلّ التّونسيين بعد الثّورة أنّهم ودّعوا إلى غير رجعة زمن المحاكمات السياسيّة

وجلّ تلك القضايا لا تستند بحسب محامين وحقوقيين إلى أدلة ماديّة وقرائن ثابتة. ويرجّح مراقبون أنّ تلك المحاكمات توجّهها خلفيّات سياسيّة، وأنّ المراد استنزاف شعبيّة الحركة المذكورة، وتحويلها من معارض سياسي وازن إلى مجرّد ملفّ قضائي. كما أنّ القصد، بحسب ملاحظين، معاقبة حركة النّهضة، لأنّها حكمت ولأنّها عارضت، والحال أنّها لم تحكم وحدها طوال العشريّة المنقضية، فكأنّ الرّسالة المضمّنة من تلك المحاكمات أنّ ليس من حقّ الإسلاميين أن يحكموا، ولا أن يعارضوا، وإن فعلوا فإنّ مصيرهم المتابعات القضائيّة أو أقبية السّجون. كما شملت المحاكمات السّياسيّة أيضا مناضلين من حزب العمّال التّونسي، وزّعوا مناشير تضمّنت تنديدا بغلاء الأسعار. وجرى توجيه دعوات إلى سياسيين وحقوقيين (غازي الشّواشي، العيّاشي الهمّامي، نجيب الشابي، منصف المرزوقي)، وغيرهم للمثول أمام القضاء. وذلك على خلفيّة نقدهم سياسات النّظام الحاكم. وتمّت محاكمة مواطن بسبب قصيدة، وأحيل غيْره على التّحقيق بسبب نقده أداء رئيسة الحكومة، فيما تمّ إيقاف آخرين على خلفيّة تدويناتٍ نشروها على شبكات التّواصل الاجتماعي. وتكون التّهم غالبا بعنوان "ارتكاب أمر موحش ضدّ رئيس الجمهوريّة"، أو"نشر إشاعات كاذبة" بغرض 'التّطاول على رموز الدّولة'، أو "الإساءة إلى موظّف عمومي". وبناء على المرسوم 54 الذي فرض قيودا كثيرة على حريّة التّعبير. ومع أنّ التّشهير برئيس الجمهوريّة أو غيره من المواطنين فعل مدان، فإنّ الإشكال ماثلٌ في عبارة "التّطاول على رموز الدّولة" التّي تبدو ضبابيّة فضفاضة، وجرى تمطيطها أحيانا لتشمل تجريم الرّأي النّاقد للنّظام الحاكم. وهو ما يعدّ تقييدا لحريّة التّعبير.

معلومٌ أنّ تلك المحاكمات السّياسيّة ستزيد من شعبيّة المعارضين للنّظام القائم، فهي تظهرهم في صورة الضّحايا، وتجعلهم محلّ تعاطف في الدّاخل والخارج. كما أنّها تستنزف المنجز الحقوقي للثورة التّونسيّة، وتبعث رسائل سلبيّة إلى الخارج، مفادها بأنّ تونس توشك أن تصبح دولة تكميم أفواه. والواقع أنّ معظم التونسيين لا يرون في محاكمة مُعارِض على خلفيّة آرائه السياسيّة إنجازا عظيما، فالحدث لن يُحسِّن مقدرتهم الشّرائيّة، ولن يضمن لهم وفرة الغذاء والدّواء، ولن يحسّن التّرتيب السّيادي لتونس، ولن يُخرجها من ضائقتها الاقتصاديّة، بل هو مجرّد إلهاء للنّاس عن قضاياهم الحقيقيّة ومشاغلهم المعيشيّة الملحّة بحسب مراقبين.

ختاما، لقد مارس قيس سعيّد، خلال عشريّة الانتقال الدّيمقراطي، حقّه في التّعبير وعارض المنظومة الحاكمة وقتها في تمام الحريّة، ودعا إلى كنسها ورحيلها، ولم تتمّ محاكمته على خلفيّة آرائه السّياسيّة، بل قبل خصومه أفكاره النّقديّة بصدر رحب. وأحرى بالرّئيس قيس سعيّد اليوم أن يعامل مخالفيه برحابة الصدر نفسها في كنف الدّيمقراطيّة، وثقافة الاختلاف، لا ثقافة الاتّهام، والإقصاء، والتخوين لأنّ جلّ الناس لمّا انتخبوه ومنحوه ثقتهم، عوّلوا على أن يكون حاميا للحقوق والحريّات، وأن يقطع نهائيّا مع الدّولة القامعة.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.