عن القضاء والسياسة في تونس
تعدّ السلطة القضائية ركنا أساسيا من أركان إقامة الدولة المدنية العادلة، فعليها المعوّل في تفسير القوانين وتطبيقها، وفي فضّ المنازعات بين النّاس بطريقة سلمية، حضارية. وهي المعنيّة بتأدية الحقوق إلى أصحابها، وإلزام المكلّفين بأداء واجباتهم، وعدم تجاوز صلاحياتهم الدستورية لتحقيق مآرب شخصية أو فئوية على حساب الصالح العام. ويُفترض في القضاء في الدول التقدّمية أن يكون مؤسّسة مستقلّة، بعيدة عن التوظيف السياسي، أو الديني، أو المذهبي، وأن تربطها بالسلطتين، التشريعية والتنفيذية، علاقات تجاور، وتنافذ، وتعاون، لا علاقات هيْمنة، أو احتواء، أو استتباع. وذلك حتّى يعمل القاضي في كنف الاستقلالية، ويصدر أحكامه في تمام النزاهة والشفافية على نحوٍ يضمن تحقيق الإنصاف وبناء دولة الحق والواجب. والملاحظ في تونس منذ ظهور ما يُعرف بدولة الاستقلال أنّ القضاء لم يسلم من سطوة التوظيف السياسي، وهيمنة السلطة التنفيذية، ولذلك تداعيات خطيرة على سيرورة العدالة داخل الاجتماع التونسي.
اضطلع رئيس الجمهورية الراحل، الحبيب بورقيبة، بدور مركزي في تشكيل ملامح المشهد القضائي في تونس، وصدرت في عهده قوانين تأسيسية، وتنظيمية للقطاع. لعلّ أبرزها القانون، عدد 29 لسنة 1967 المؤرخ في 14 يوليو/ تموز1967، الذي تضمّن أصناف المحاكم، وهيْكلتها، وواجبات القضاة ورتبهم، وضبط مجالات اختصاصهم، وصلاحياتهم وكيفية تعيينهم، وإعفائهم وتأديبهم ومدّة عملهم وراحتهم سنويا. واللافت في تلك الفترة أنّ "تسمية القضاة كانت بأمر من رئيس الجمهورية بناء على ترشيح من المجلس الأعلى للقضاء"، الذي تكوّن من 14عضوا وتولّى رئاسته الحبيب بورقيبة، أمّا نائبه فوزير العدل. ولا تعتبر استقالة القاضي مقبولة قانونيا إلا إذا وقع قبولها من رئيس الجمهورية. ومع أنّ القانون المذكور ألزم "القضاة بأن يقضوا بكامل التجرّد وبدون اعتبار للأشخاص أو للمصالح، وليس لهم الحكم في القضيّة استنادا لعلمهم الشخصي"، فإنّ الحقبة البورقيبية شهدت انتهاكاتٍ عديدة لحقوق الإنسان ولمقتضيات المحاكمة العادلة. وظلّ المرفق القضائي ملحقا عمليّا بقصر الرئاسة، ويأتمر بأوامر الزعيم المؤسّس، وجرى تعيين قضاة موالين له وللحزب الدستوري (الحاكم) في جلّ المحاكم. واستخدم بورقيبة وأعوانه القضاء لتصفية حساباتهم مع خصومهم السياسيين، فتمّ إصدار أحكام قاسية، جائرة ضدّ كثيرين، وزجّهم في المعتقلات، فقط لأنّهم انتموا إلى حزب معارض، أو لأنّهم انتقدوا سياسات النظام الحاكم، أو مارسوا حقّهم في الاحتجاج والتظاهر.
شهدت الحقبة البورقيبية انتهاكاتٍ عديدة لحقوق الإنسان ولمقتضيات المحاكمة العادلة
واحتكر الزعيم المؤسس وحزبه الفضاء العام، ووسائل الإعلام وقنوات تشكيل الوعي الجمعي، وكان القضاء التابع للنظام سيفا مسلطا ضدّ المخالفين لسياسات الحاكم بأمره، ودلّت على ذلك محاكمات صورية، غير عادلة ضدّ اليوسفيين (أنصار صالح بن يوسف)، والنقابيين ورموز اليسار، والإسلاميين، محاكمات افتقرت غالبا لقرائن الإدانة، وهمّشت حقّ الدفاع. وكان القصد منها ترهيب الآخر وتسويد الحكم الفردي/ الشمولي. واضطلعت بهذا الدور خصوصا محكمة أمن الدولة، سيّئة الذكر، والتى أحدثها بورقيبة أساسا لتلفيق تهم خطيرة من قبيل الخيانة العظمى، وتهديد السلم الداخلي والتآمر على أمن الدولة لخصومه السياسيين، تهم أودت بكثيرين إلى لسجون، فمنهم مَن قضى في زنزانة، ومنهم مَن غادرها فظلّ طريدا أو شريدا أو منفيّا أو محاصرا في بلده. وبذلك تلبّس القضاء بشهوة الحاكم/ الفرد وطموحه إلى الاستئثار بالسلطة، وتحوّل من أداةٍ لتحقيق الإنصاف إلى أداةٍ للتنكيل بالمخالفين وإهدار العدالة، وفي ذلك إضرار بحقوق الناس.
إصدار بطاقة جلب دولية في شأن المرزوقي في وقت قياسي، وإصدار حكم بسجنه أربع سنوات في ظرف وجيز، دلّا على إهدار شروط المحاكمة العادلة
ومع أنّ الجنرال زين العابدين بن علي الذي قاد انقلابا طبّيا أبيض على الحبيب بورقيبة وعد، في البيان الافتتاحي لمدّة حكمه، بأنّه "لا ظلم في تونس بعد اليوم"، وأمر بإلغاء محكمة أمن الدولة، فإنّه لم يرفع يده عن المجلس الأعلى للقضاء، وظلّ يعيّن أعضاءه ويتولّى رئاسته، ويشرف على تسييره، وتوجهيه الوجْهة التي يريد، وبذل الجهد لاحتواء القضاة وتوظيفهم لخدمة أجندته الاستبدادية. وجلّى ذلك ارتكانُه إلى القضاء للتنكيل بأنصار حركة النهضة ذات المرجعية الإسلامية، وشنّه ضدّها ما يُعرف بحملة "تجفيف المنابع"، فتمّ اعتقال الآلاف من مؤيّديها، شيبا، وشبابا، وأطفالا، وصدرت في شأنهم أحكامٌ قضائية ثقيلة في ظلّ محاكمات انتقامية، افتقرت غالبا لشروط المحاكمة العادلة. ولم يقف بن علي عند الإسلاميين، بل تجاوز ذلك إلى استهداف الحقوقيين، والمدوّنين، والمتحزّبين اللبراليين، واليساريين وعموم المعارضين لسياساته القامعة. وحكم البلاد بقبْضة حديدية، مستندا إلى سلطة قضائية تابعة، وقوّة بوليسية غاشمة. لكن من المفيد الإشارة إلى أنّ بعض القضاة الشرفاء، مثل مختار اليحياوي، وجمعية القضاة التونسيين، وقفوا ضدّ توجّهات الرئيس المخلوع للهيمنة على القضاء وتوظيفه ضدّ خصومه، وكلّفهم ذلك معاناة المضايقات والممارسات التمييزية المهينة مثل الإحالة على مجلس التأديب، وقطع الراتب، والنقل التعسّفي من مكان العمل. وكان المراد من تلك السياسات القمعية ترهيب القضاة، والحقوقيين ونشطاء المجتمع المدني، وتحويل البلد إلى سجن كبير، وضرب أيّ محاولة لتأمين استقلالية القضاء، وأيّ جهد يروم تحريره من إسار الرئيس وسطوة السلطة التنفيذية.
أمّا بعد الثورة، فيمكن التمييز بيْن مرحلتين في مستوى العلاقة بين القضاء والسياسة، الانتقال الديمقراطي والتدابير الاستثنائية. في المرحلة الانتقالية، تحرّر القضاء التونسي، إلى حدّ معتبر، من ضغوط السلطة التنفيذية، لكنّه ظلّ محلّ تجاذب سياسي بين الأحزاب الحاكمة والأحزاب المعارضة، وكلٌّ يتّهم الآخر بمحاولة اختراق القطاع وتوظيفه لصالحه. لذلك رفع القضاة في تمام الحرّية شعار "لا للتدخّل السياسي في القضاء". كما حامت حول بعض القضاة شبهات فساد وسوء استغلال نفوذ. وظلّ القضاء يعاني البيروقراطية، ومحدودية الرقمنة، وبطء إصدار الأحكام. لكنّ الثابت أنّ الدستور التونسي الجديد (2014) أعلى من قيمة القضاء، وأكّد على استقلاليته. وجاء في الفصل 102 منه أنّ "القضاء سلطة مستقلة تضمن إقامة العدل، وعلوية الدستور، وسيادة القانون، وحماية الحقوق والحريات، وأن القاضي مستقلٌّ لا سلطان عليه في قضائه لغير القانون". وغدا المجلس الأعلى للقضاء هيئة دستورية، موسّعة، تضمّ 45 عضوا، يمثلون ثلاثة فروع قضائية (عدلي، مالي، إداري)، لا تخضع لسطوة رئيس الجمهورية. بل أغلب أعضائها منتخَبون، وتضمن في نطاق صلاحياتها حسن سير القضاء واستقلاله طبق أحكام الدستور والمعاهدات الدولية. ومثّل المجلس سلطة وازنة، مضاهية للسلطة التشريعية والتنفيذية.
الحاجة أكيدة إلى تحرير القضاء التونسي من سطوة السياسة والأدلجة، وهيمنة السلطة التنفيذية، وقوى الموالاة، والمحاباة والمحسوبية
وفي مرحلة التدابير الاستثنائية التي أعلنها رئيس الجمهورية قيس سعيّد (25 يوليو/ تموز 2021)، تزايدت، بحسب مراقبين، مؤشّرات توظيف القضاء لأغراض سياسية، ففي أوّل كلمة متلفزة له، في زمن حكم الاستثناء، نصّب سعيّد نفسه نائبا عامّا، وفي ذلك محو للحدود الفاصلة بين مؤسّستي الرئاسة والقضاء. ويبدو أنّه تمّ التراجع عن ذلك لاحقا. كما اعتبر الرئيس القضاء "قضاء الدولة ووظيفة من وظائفها"، ودعا إلى تطهير القطاع، ولمّح إلى إمكانية تعليق دستور 2014، وإمكانية حل المجلس الأعلى للقضاء، وإعادة صياغة المجلس بواسطة مراسيم (10 ديسمبر/ كانون الأول 2021).وأعلنت وزيرة العدل، ليلى جفال، في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، إعداد مشروع قانون يتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء. وأخبرت تلك التصريحات بإمكان عودة القضاء تحت جبّة السلطة التنفيذية. وهو ما أثار حفيظة قضاة وحقوقيين. وعدّوا ذلك تهديدا داهما لاستقلالية القضاء. كما تواترت في زمن الاستثناء إحالة مدنيين على القضاء العسكري، وتمّت محاكمة مدوّنين، وإعلاميين، ونوّاب على خلفية معارضتهم النظام القائم واعتبارهم ما حصل يوم 25/7/2021 انقلابا على الدستور. وفي السياق نفسه، بدا لافتا للنظر تسرّع الجهاز القضائي في إصدار أحكام بشأن قضايا ذات خلفية سياسية، وتحمل عناوين جنائية. ومثال ذلك اتهام رئيس الجمهورية السابق، منصف المرزوقي، بالاعتداء على أمن الدولة الخارجي، وربط اتصالاتٍ مع أعوان دولة أجنبية، الغرض منها الإضرار بالمصالح الدبلوماسية لتونس. وذلك بسبب اعتباره تدابير قيس سعيّد غير مشروعة، بل انقلابا على الديمقراطية، ومناهضته إقامة القمة الفرنكفونية في تونس في ظلّ حكم استثنائي. والتهمة الموجهة للرجل جنائية، خطيرة، تقتضي شهورا للتحقيق، والتدقيق، وتجميع أدلّة الإدانة، واستنطاق المدّعى عليه. لكنّ ما حصل أنّ إصدار بطاقة جلب دولية في شأن المرزوقي تمّ في وقت قياسي، وإصدار حكم بسجنه أربع سنوات تمّ في ظرف وجيز. ودلّ ذلك في نظر حقوقيين على إهدار شروط التحقيق المتأنّي، والمحاكمة العادلة، وعلى عودة نهج توظيف القضاء لتصفية حساباتٍ مع خصوم سياسيين. وهو ما يضرّ باستقلالية القضاء من ناحية، ويبعث رسائل غير مطمئنة للرأي العام الوطني والدولي.
ختاما، "العدل أساس العمران" كما حدّث عبد الرحمن بن خلدون، ولا يمكن ردّ الظلم بغير قضاة مستقلّين، يقفون على مسافةٍ واحدةٍ من كلّ الفرقاء السياسيين. لذلك الحاجة أكيدة إلى تحرير القضاء التونسي من سطوة السياسة والأدلجة، وهيمنة السلطة التنفيذية، وقوى الموالاة، والمحاباة والمحسوبية. وذلك ممكنٌ من خلال إشراك أهل القطاع ومكوّنات المجتمع المدني في بلورة تصوّر إصلاحي شامل للمنظومة القضائية، يكون خارج التدابير الاستثنائية. ذلك أنّ القضاء النزيه ضامنٌ لاحترام حقوق الإنسان، ودعامة أساسية لمشروع الدمقرطة وبناء الدولة التقدّمية/ العادلة لا محالة.