عن الشراكة الإيرانية الأميركية في العراق
بات من المعلوم، بالضرورة، أن هناك شراكة غير مكتوبة بين إيران وأميركا لتقاسم النفوذ في العراق، تفيد بعض الوثائق بأنها بدأت حتى قبل احتلال العراق عام 2003 والغزو الأميركي للبلد وإسقاط النظام فيه، وهو ما أشار إليه السفير الأميركي الأسبق في العراق زلماي خليل زاده، في كتابه "السفير"، الذي أشار إلى وجود لقاءات جمعْته وقادة إيرانيين لتنسيق المواقف لإسقاط النظام العراقي السابق.
أخيراً، وجدت إيران، في ظل الحرب الإسرائيلية العدوانية على غزّة، فرصتها من أجل فك هذه الشراكة عبر تفعيل أذرعها المسلحة وتصعيد المواجهة مع الوجود الأميركي في العراق. ... يوم الجمعة الماضي، وردّا على سلسلة الضربات الأميركية التي طاولت قياداتٍ في ما يعرف بالحشد الشعبي العراقي داخل بغداد وغيرها، نشرت ما تعرف بـ"المقاومة الإسلامية في العراق"، والتي هي تحالف بين مجموعة من الفصائل المسلحة المنضوية تحت راية الحشد الشعبي، بيانا توعّدت فيه بالثأر لمقتل قادة عدة، ودعت فيه الفصائل الأخرى من أجل الإسراع بالمشاركة في معركة طرد الأميركيين من العراق، وهي تتحدّى عن جملة من الانتهاكات الأميركية للسيادة العراقية بفعل عمليات الاستهداف تلك.
تفيد التقارير الإعلامية بأن قائد ما يسمّى فيلق القدس الإيراني إسماعيل قاآني زار العراق عقب مقتل الجنود الأميركيين الثلاثة في البرج 22 إثر استهدافهم من مجموعة مسلحة تابعة لإيران، كما قالت واشنطن، وأن قاآني، في الزيارة، أبلغ قادة الفصائل المسلحة في العراق برفض إيران مثل هذه الضربات، بل سارعت إيران إلى التبرؤ من هذه العمليات، مؤكدة أنها لا تتحكّم بالفصائل المسلحة، سواء في العراق أو حتى اليمن. ولا يخفى على أحد، كما لا يخفى على أميركا، أن أحاديث الساسة الإيرانيين وتصريحاتهم هي للاستهلاك فلا طائل لتصديقها، فالكلُّ يدرك جيدا طبيعة ولاء هذه الفصائل، سواء في العراق أو اليمن أو حزب الله اللبناني لإيران ومرشدها، ولاء طاعة أو مصلحة لا فرق، فالنتيجة واحدة.
تدرك إيران جيدا أن الولايات المتحدة هي الأخرى لا ترغب بتوسيع مجال الحرب
يكتب توبي ماتيسين، وهو محاضر أول في الدراسات الدينية العالمية في جامعة بريستول بالمملكة المتحدة، في مقال نشره في مجلة فورين أفيرز الأميركية، أن حرب غزّة لم تعد مقتصرة على حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وإسرائيل، موضحا أنها توسّعت بعد مشاركة ما يُسمى "محور المقاومة" الذي يضم إيران ولبنان وسورية والعراق واليمن فيها.
تدرك إيران جيدا أن الولايات المتحدة هي الأخرى لا ترغب بتوسيع مجال الحرب، وبالتالي تجتهد طهران من أجل أن تدفع الفصائل الموالية لها لضرب القواعد الأميركية، وخصوصاً الفصائل العراقية التي تعتقد طهران أن مواجهتها الولايات المتحدة عبر هذه الفصائل، وما يمكن أن يترتب عليها من موقف سياسي لمختلف القوى السياسية العراقية التي يدين أغلبها بالولاء لإيران، يمكن أن يدفع باتجاه زيادة الضغط على أميركا نحو سحب قواتها من العراق.
تريد إيران أن تستفرد بالغنيمة العراقية، تعبت، بعد 20 عاما من الشراكة مع الولايات المتحدة، خصوصاً في ظل ردة الفعل الشعبية العراقية على نفوذها والرافضة للوجود الإيراني، وهو ما تمثل جيدا في ثورة تشرين 2019. وقد اختلفت المعطيات بالنسبة لإيران اليوم، هناك نفوذ سياسي وعسكري قوي في داخل العراق، لا يمنعه من الاستفراد سوى الوجود العسكري الأميركي والنفوذ الاقتصادي الأميركي الذي تنامى خلال الأعوام الأربعة الماضية، وخصوصاً في ظل سيطرة الفيدرالي الأميركي على كثير من مفاصل الاقتصاد العراقي عبر تحكّمه في إيرادات الدولار الواصلة إلى بغداد.
كثير مما يصرّح به قادة العراق السياسيون في العلن خلاف ما يضمرونه
تشعر إيران أن الوقت مناسبٌ لاستغلال حدث الحرب على غزّة من أجل زيادة الضغط على واشنطن لدفعها إلى الخروج من العراق، غير أن هذا الطموح الإيراني ما زال يصطدم برفض سياسي واضح من أربيل التي لطالما دفعت ثمن ذلك الرفض، عبر سلسلة من الضربات الإيرانية لتغيير موقفها.
تلعب إيران لعبة خطرة بالدفع نحو زيادة التوتر بين حكومة محمد شياع السوداني والولايات المتحدة، فالتهديدات التي أطلقتها الفصائل الموالية لها قد تجرّ إلى مواجهة أوسع داخل العراق، خصوصاً مع التأكيدات من تلك الفصائل بأن كل الأهداف الأميركية باتت في مرمى نيرانها، ما يعني أننا قد نشهد عودة استهداف السفارة الأميركية في بغداد بقصفٍ جديد يؤجّج الوضع الملتهب أكثر. وتسعى الولايات المتحدة إلى تجنّب هذا السيناريو من خلال توجيه دعوة للسوداني لزيارة واشنطن بعد رمضان، دعوة انتظرها السوداني كثيرا، ما يعني أنه سيسعى إلى الحيلولة دون الاستمرار في خطتها الموازية بالدفع نحو مزيد من العمليات ضد الوجود الأميركي في العراق.
ترغب إيران بالضغط على حكومة السوداني، التي تعتبر حكومة الفصائل المسلحة الموالية لإيران، من أجل توقيع اتفاقية جديدة تقضي بسحب كامل الوجود العسكري الأميركي من العراق، الأمر الذي يتيح لها الاستحواذ على ما تبقى من نفوذ ليس لها في العراق والمتمثل بالوجود الأميركي.
معادلة صعبة قد تجبر العراق على خيارات صعبة، فكثير مما يصرّح به قادة العراق السياسيون في العلن خلاف ما يضمرونه ويتحدّثون به في صالوناتهم المغلقة، فهم يدركون جيدا معنى الاضطرار الأميركي للانسحاب، وبالتالي هم يؤيدون حملة واشنطن ضد المليشيات، إلا أنهم أيضا يعتقدون أن الولايات المتحدة ليست صاحبة نفسٍ طويل في مثل هذه المواجهات، وهو ما يجعل مواقفهم متذبذبة.