عن الحجاب والسياسة
منذ حوالي ثلاثة عقود وموضوع الحجاب في قلب النقاشات السياسية في أكثر من دولة أوروبية. كانت الدفوعات، التي أفضت إلى منع الزّي الإسلامي في النطاقات العامة تتمحور حول العلمانية والحرية. وفق المتخيل الغربي، الذي يعود إلى زمن الاستشراق والاستعمار، فإن الحجاب يرمز إلى قهر المرأة وتبعيتها للرجل. بهذا، كان تحرير المرأة منه يدخل في إطار واجبات المستعمر، الذي كان يقنع نفسه بأن مهمّته تقتضي نقل الشعوب إلى نور الحضارة.
فرنسا التي تتبنّى نسخة متشدّدة من العلمانية، بادرت إلى منع الحجاب في المدارس وفي أغلب أماكن العمل، الأمر الذي لم يلبث أن تمدّد وانتقل إلى أكثر من بلد أوروبي. في ساحة النقاش، اصطف المتدينون المسلمون جنباً إلى جنب مع المدافعين الآخرين عن حرية ارتداء الحجاب، فيما اصطفّ في الجانب المقابل الكارهون للمظاهر الإسلامية، والآخرون المشفقون على "هوية البلاد". وقد مضت فرنسا، في بداية العام الدراسي الحالي، إلى وضع تشريع يمضي خطوة أبعد، حيث جرى الإعلان عن منع إرتداء العباءات التي كانت تلميذاتٌ كثيراتٌ يرتدين فوقها غطاء للرأس عقب الخروج من المدرسة. وأثارت الخطوة جدلاً كبيراً وبدت، حتى لبعض من كانوا متحمّسين في السابق لمنع الحجاب، غير مبرّرة. بالنسبة لوزير التربية، المتأثر بخطاب الرئيس إيمانويل ماكرون، عمّا سماها "أزمة الإسلام" أو "الانفصال الإسلامي"، كان لا بدّ لهذا الإجراء من أجل تحقيق قيم المساواة والقضاء على التمييز.
تضع دول كثيرة معايير للزي في النطاقات العامة، لكن المفارقة في الحالة الفرنسية كانت أننا نتحدّث عن بلد الحريات، الذي يتيح، حتى لأصحاب التوجّهات الشاذّة، حرية التعبير عن ميولهم. لك أن تتخيل أنه، وفي هذا البلد، الذي يمكنك أن تجلس فيه عارياً على شاطئ البحر، تمنع المسلمات من ارتداء زي السباحة الساتر، "البوركيني"، في أمكنةٍ كثيرة.
حينما بدأت مسألة غطاء الرأس تتحوّل إلى ظاهرة أوروبية كانت دول عربية وإسلامية عريقة، كتركيا وتونس، تتشدّد في منع الحجاب
وفي حين كان كثيرون ينظرون إلى الأمر بنوع من التبسيط، كان باحثون، مثل جيل كيبل، يرون أنه يجب دعم قرار حظر العباءة بكل قوة، لأنه يقضي على مساعي المسلمين، الرافضين الاندماج أو التذويب. ربط كيبل، الباحث المرموق والمقرّب من دوائر صنع القرار، بين العباءة وقاعدة "الولاء والبراء"، التي يرى أنها وضعت أساساً للفصل بين المسلمين والكفّار وشكلت اللبنة، التي سوف تستند إليها المجموعات السلفية والمتطرّفة والإرهابية. ووسط دهشة الجالية المسلمة ومتابعين كثيرين، كان يبدو أن وجهة النظر هذه، التي تربط مسألة اختيارية صغيرة مثل ارتداء العباءة بالسلفية الجهادية، كانت هي الغالبة.
حينما بدأت مسألة غطاء الرأس تتحوّل إلى ظاهرة أوروبية كانت دول عربية وإسلامية عريقة، كتركيا وتونس، تتشدّد في منع الحجاب. منح ذلك المشرّعين الأوروبيين، وخصوصاً الفرنسيين، حماساً كثيراً بشأن إمكانية حظر الزي الإسلامي. وقد خدم تسليط الضوء على مثل هذه البلدان المنطق آنذاك، كما أنه فتح أبواباً للنقاش بشأن ما إذا كان الحجاب ركناً أصيلاً من مطلوبات الدين، أم شيئاً ثانوياً يمكن للمسلمين التخلّي عنه. تأخّر قرار الحظر وقتاً طويل، فالمنظرون الأوروبيون كانوا يعلمون أن من أهم الفروق بين دولهم ودول الجنوب الاستبدادية هو ما تتمتع به من حرية اعتقاد وممارسة شعائر.
يثير الارتباط بين الحجاب والسياسة والعلمانية اهتماماً كثيراً في دوائر البحث الغربية، ولا يقتصر هذا على دراسة النطاق الأوروبي، وإنما يمتد إلى الانشغال بزي المرأة في الدول الإسلامية. وفي العالم العربي، كانت قضية الحجاب، سواء من جهة منعه أو فرضه، مثار جدل طويل بين التيارات السياسية والدينية. كانت الطبقة الحداثية التي نالت قسطاً أكبر من التعليم تميل إلى "السفور"، في حين كان ارتداء الحجاب وغطاء الرأس يرتبط بالفئات التقليدية والشعبية. في مرحلة تالية، مالت الكفّة لصالح المحجّبات، فصارت أعدادهن أكبر في المدارس والجامعات، ومن ثم سوق العمل، وإن ظلت أنظمة عربية كثيرة تفضل تجاهل وجودهن، فلا يبرزن في وسائل الإعلام ولا يتم اختيارهن لتمثيل البلد.
في العالم العربي، كانت قضية الحجاب، سواء من جهة منعه أو فرضه، مثار جدل طويل بين التيارات السياسية والدينية
نشر حديثاً كتاب بالإنكليزية للباحثة أماني الصيفي، "المرأة المصرية المعاصرة: الموضة والإيمان"، عمل على تشريح الأزياء النسائية وتتبع دلالاتها، ومصر ساحة جيّدة لهذا النقاش، حيث يزدهر فيها تيار كان يربط على الدوام بين التحرّر ونزع الحجاب. حدث ذلك في ثورة 1919، وفي أثناء ثورة 2011، التي رأى ناشطون أنه كان عليها أن تضع حداً لتمدّد الحجاب. بالنسبة للرافضين كان الحجاب تعبيراً عن السلطة الذكورية وهيمنة الإسلام السياسي. كان ذلك يحدُث، على الرغم من أن 90% من المصريات كن يرتدين غطاء للرأس في العام 2012، وفق الصيفي. ووجوه أهمية الكتاب كثيرة، فمنها أنه يلفت إلى حجم الدراسات التي تناولت موضوع الحجاب ولباس المرأة، سواء في المجتمعات المسلمة، خصوصاً لجهة تحوّل الحجاب إلى موضة و"بزنس" لبعضهم، أو في الدول الغربية التي أظهرت اهتماماً بالموضوع بالتزامن مع سياسات "الحرب على الإرهاب". وقد أشارت المؤلفة إلى دراسات أخرى تناولت أزياء النساء بشكل عام في دول الجنوب، على غرار الهندية غاياتري سبيفاك، التي كانت تعرّضت في بحثها "هل يستطيع التابع أن يتكلم؟" لمأزق المرأة "العالم ثالثية"، والتي تجد نفسها بين خيارين، الاستسلام لما تفرضه معايير مجتمعها الذكوري، أو ارتداء الأزياء الحديثة الكاشفة والوقوع في شرك الإمبريالية.
تتجاوز أهمية الكتاب الحالة المصرية لتشابه الواقع مع دول إسلامية كثيرة. أشياء مثل الثورة، التي أريد لها أن تبرز وجوهاً ليبرالية تذكر بالثورة السودانية التي كان يندر إبراز متحدّثة محجّبة باسمها. ملاحظة الصيفي عن وجود تمييز ضد المحجّبات في بعض الأماكن، كالمطاعم الراقية أو الأماكن السياحية، أيضاً أمر يتكرّر في أكثر من بلد.