عن اعتراف إسبانيا بدولة فلسطين
سجّلت إسبانيا، الثلاثاء الماضي، بمعيّة النرويج وأيرلندا، موقفاً تاريخياً في الانتصار لعدالة القضية الفلسطينية، والإيمان بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته، التي تشمل قطاع غزّة والضفّة الغربية، وعاصمتها القدس الشرقية. وقال رئيس الحكومة الإسباني بيدرو سانشيز إنّ بلاده ''لن تعترف بأيّ تغييرات طرأت على الحدود الفلسطينية بعد 1967، ما لم يتّفق الأطراف على ذلك''، وهو ما يزيد من العزلة الدبلوماسية لدولة الاحتلال، في ظلّ التداعيات التراجيدية لحرب الإبادة التي تشنّها على قطاع غزّة، في تحدّ سافرٍ لقرار محكمة العدل الدولية، القاضي بوقف هجومها على مدينة رفح.
ومنذ هجوم المقاومة الفلسطينية على إسرائيل في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، والعدوان الإسرائيلي الوحشي الذي أعقبه على قطاع غزّة، واجهت الطبقة السياسية الإسبانية، وقطاع عريض من نُخَبِ الثقافة والفكر والإعلام والرأي العام، الأسئلة الكبرى التي يطرحها الصراع على صعيد جذوره التاريخية، وتحوّلاته الدراماتيكية، التي دفع الشعب الفلسطيني أثمانها غالياً خلال العقود السبعة الماضية. ومع اشتداد القصف وزيادة توحّش آلة القتل الإسرائيلية في غزّة بدأ يتبلور موقف إسباني مختلف داخل الاتحاد الأوروبي، وبالأخص بعد تصريحات مسؤولين إسبان حول محرقة غزّة، ومن ذلك، ما صرّحت به وزيرة العمل الإسبانية، يولندا دياث، إنّ ''فلسطين ستكون حرّة من النهر إلى البحر''. كما شهدت مدن إسبانية مسيراتٍ ومظاهراتٍ منددةً بالمجازر الإسرائيلية في حقّ المدنيين العُزّل في غزّة، ومطالِبةً بمحاسبة دولة الاحتلال على جرائمها.
يُربك القرار الإسباني دولة الاحتلال، لا سيّما أنّ توقيته دالٌّ للغاية، فقد جاء أياماً قليلة بعد قرار العدل الدولية بوقف الهجوم على رفح، ويتزامن، أيضاً، مع تخبّط الحكومة الإسرائيلية وعجزها عن تحقيق أهدافها في غزّة. بالتوازي مع ذلك، شكّل قرار الاعتراف بدولة فلسطين ضربةً للوبي الصهيوني في إسبانيا، الذي يقوده رجل الأعمال دافيد هاتشويل، الذي يرأس رابطة الصداقة الإسبانية الإسرائيلية، ويقيم علاقات وثيقة مع منظماتٍ وجهاتٍ محسوبة على اليمين الإسباني. وإخفاق هذا اللوبي في عرقلة القرار ستكون له ارتدادات داخل المؤسّسات والأوساط الإسبانية المُؤيّدة للسردية الإسرائيلية.
في السياق ذاته، يستدعي القرار الإسباني إرثاً تاريخياً محموداً في الانتصار للفلسطينيين. فقد اعترفت مدريد بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني (1974)، ودعت إلى حلّ الصراع بإنهاء إسرائيل احتلالها أراضي 1967، والاعترافِ بحقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلّة وفق قرارات الشرعية الدولية. ورغم أنّ إسبانيا اعترفت بإسرائيل (1986)، إلا أنّ ذلك لم يمنعها من مواصلة دعم الحقوق الفلسطينية، التي تقرّها الشرعية الدولية. ومع نهاية الحرب الباردة، وتشكُّل نظام عالمي جديد، استضافت مدريد مؤتمراً دولياً للسلام، في مسعى لإحياء عملية السلام في الشرق الأوسط وإقرار حلّ عادلٍ للقضية الفلسطينية. وبعد توقيع اتفاق أوسلو (1993)، وإقامة السلطة الوطنية الفلسطينية، كانت إسبانيا من الدول الأوروبية التي خصّصت موارد مالية كبيرة لدعم مشاريع التنمية في أراضي الحكم الذاتي. غير أنّ هذا التوجّه سيشهد انحساراً بعد اندلاع الانتفاضة الثانية، وفشل مفاوضات كامب ديفيد بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي (2000)، وتبنّي معظم الدول الغربية أجندة ''مكافحة الإرهاب'' بعد أحداث 11 سبتمبر 2001.
قد يتحوَّلُ اعتراف إسبانيا والنرويج وأيرلندا بدولة فلسطين إلى كرة ثلج تتدحرج داخل فضاء الاتحاد الأوروبي، وهو ما يطرح تحدّيات على اللوبي الصهيوني الذي يتمتّع بشبكة نفوذ واسعة في عدد من عواصم أوروبا. فإقدام دول أوروبية أخرى على الاعتراف بدولة فلسطين من شأنه أن يخلق حالةً سياسيةً غير مسبوقة في أوروبا، قد تكون لها تداعيات على المدى البعيد.
يكتسي اعتراف إسبانيا بدولة فلسطين أهمّية سياسية وتاريخية، إذ سيساعد في زيادة الضغوط الدولية على إسرائيل، من أجل دفعها للقبول بالانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلّة وإقرار حلّ الدولتَين. كما أنّه يكتسي أهمّية رمزية، برسمه صورةً جديدةً لإسبانيا، دولةً حرّةً مناهضةً للاحتلال والاستيطان والتمييز العنصري والتطهير العرقي، التي يمثّلها الكيان الصهيوني.