عن أزمة أحزاب الموالاة في تونس

13 اغسطس 2022
+ الخط -

أدّى إعلان الرئيس التونسي، قيس سعيّد، عن جملة من التدابير الاستثنائيّة لإدارة البلاد إبّان الحراك الاحتجاجي الذي شهدته بعض المدن التونسيّة يوم 25 يوليو/ تموز2021 إلى تشكّل مشهد سياسي جديد، يتكوّن أساساً من تيّارين متقابلين. الأوّل مُناوئ لما أقدم عليه الرئيس من قرارات، ويعتبرها لا دستوريّة ومناقضة للمسار الديمقراطي، ويضمّ أساساً جبهة الخلاص الوطني (حركة النهضة، ائتلاف الكرامة، قلب تونس...)، وتنسيقيّة الأحزاب الديمقراطيّة الاجتماعيّة (التيار الديمقراطي، حزب العمّال، التّكتل من أجل العمل والحريّات، الحزب الجمهوري، حزب القطب)، ويندرج ضمن هذا التيار المعارض الحزب الدستوري الحرّ أيضاً. أمّا الثّاني، فتيّار مؤيد للتّدابير الاستثنائيّة الرّئاسيّة، ويعتبرها تصحيحا لمسار الثورة، ويتكوّن ممّا يعرف بأحزاب الموالاة للرئيس قيس سعيّد، وهي أساساً حركة الشعب وحزب التيار الشّعبي. وكلاهما يصدر عن خلفيّة قوميّة، وحركة تونس إلى الأمام، وهي يساريّة المنزع، وكذا حزب التحالف من أجل تونس ذو الخلفية الليبراليّة. والناظر في الأداء السياسي لأحزاب الموالاة زمن حكم الاستثناء يدرك أنّها تعاني من أزمةٍ متعدّدة الأبعاد، منها ما تعلّق بمتنها البرامجي، ومنها ما اتصل بامتدادها الشعبي، ومنها ما دار على مشروعية فعلها السياسي.

في مستوى الخلفيّة البرامجيّة لأحزاب الموالاة، يتبيّن الدارس أنّها تلتقي عند إعلان البراءة من عشريّة الانتقال الديمقراطي (2011-2021)، وتعتبرها "عشريّة سوداء"، رغم ما راكمته من منجز حقوقي، وتركيز مؤسّسي لمشروع دولةٍ مدنيّة، مواطنيّة، ديمقراطيّة. والواقع أنّ الأحزاب المذكورة سلفاً كانت مساهمة بشكل مباشر أو غير مباشر في هندسة معالم الانتظام السّياسي في تونس خلال العقد المنقضي، فحركة الشّعب كانت حاضرة في المجلس النيابي منذ انتخابات المجلس التّأسيسي2011، وكانت مكوّناً بارزاً من مكوّنات الجبهة الشعبية في البرلمان عقب انتخابات 2014، كما فازت بـ15مقعداً في مجلس نواب الشعب سنة 2019. وشاركت في تشكيل حكومة إلياس الفخفاخ، وتولّت حقائب وزاريّة مهمّة على امتداد العشريّة الماضية (وزارات التربية، التجارة، التشغيل ..). وحزب التيار الشعبي المنشق عنها، كان حاضراً في المشهد السياسي الرسمي من خلال تمثيليته النيابيّة وتولي بعض عناصره مناصب حكوميّة بعد الثورة. أمّا رئيس حركة تونس إلى الأمام، عبيد البريكي، فتقلّد منصب وزير الوظيفة العموميّة خلال حكومة يوسف الشاهد، ولم يُنجز الإصلاحات المأمولة في هذا المجال. كما أنّ حزب التحالف من أجل تونس الذي يرأسه سرحان الناصري هو سليل حزب الاتحاد الوطني الحرّ الذي كانت له تمثيليّة معتبرة في الهيكلين التشريعي والتنفيذي خلال العقد الفائت. ومن ثمّ فأحزاب الموالاة، بدل القيام بمراجعة نقدية ذاتية لأدائها السياسي طوال المرحلة الانتقاليّة، ومصارحة الشعب بفشلها في تحقيق الإصلاح وتنفيذ وعودها الانتخابيّة، انصرفت إلى ذمّ العشريّة المنقضية، والبراءة منها، وذلك على سبيل التمويه، والهروب إلى الأمام، ومغالطة الرأي العام.

أحزاب الموالاة فشلت في تحشيد الناس حول مشروع الرئيس

كما أسّست الأحزاب المعنيّة خطابها البرامجي قبل 25 يوليو/ تموز 2021 وبعده على استعداء حركة النهضة، ذات المرجعيّة الإسلاميّة، وتحميلها وزر كل التعثر الذي شهدته مرحلة الانتقال الديمقراطي، وأسرفت في شيطنة خصومها السّياسيين على اختلافهم. ومع أنّ الاستثمار في كراهية الإسلاميين كان خطاباً نافقاً، ووجد صدىً لدى طيف من المواطنين قبل واقعة 25 جويليه (يوليو/ تموز 2021)، فإنّه يبدو، الآن وهنا، خطاباً شعبوياً/ اعتباطيّاً باعتبار أنّ حركة النهضة قد خرجت عمليّاً من كلّ المراكز القياديّة والسيادية في الدولة زمن حكم الاستثناء، والتمادي في تحميلها الفشل الراهن غدا خطاباً ديماغوجيّاً، لا يلقى القبول عند شرائح كبيرة من التونسيين. وفي السياق نفسه، ترفع أحزاب الموالاة شعارات الدفاع عن السيادة الوطنيّة، والقضية الفلسطينيّة، ورفض التدخل الخارجي، ومكافحة الفساد، وضرورة التخلص من المديونيّة، وسطوة الصناديق المانحة الدوليّة، وتطالب بتأميم الثروات الطبيعية. لكنّها لا تقدّم خطوات إجرائيّة وخططاً عمليّة لتحويل تلك الشعارات إلى واقع. وفي ذلك دلالة على أنّ الأحزاب المذكورة لم ترقَ إلى أن تكون قوّة اقتراح إصلاحيّة، فاعلة، بنّاءة ومجدّدة. بل ظلّت تدور في فلك تسفيه الآخر السّياسي، وادّعاء الصوابية وامتلاك الحقيقة المطلقة. وتأكّد هذا التّوجه بعد إعلان التدابير الاستثنائيّة، وتفرّد الرئيس قيس سعيّد بالسّلطة، فالأمين العام لحركة الشّعب، زهير المغزاوي، لم يعتبر ما حصل انقلاباً على الدستور، وانزياحاً عن مشروع الدمقرطة في البلاد. بل عدّ "25 يوليو" مساراً تصحيحيّاً للثّورة، أهدافه اجتماعيّة واقتصاديّة. واعتبر عبيد البريكي الرئيس على الطريق الصحيح، وبارك زهير حمدي، أمين عام التّيار الشّعبي، المبادرة الرئاسيّة، وعدّها قطيعة مع "عشريّة سوداء". وصفّق سرحان النّاصري لبوادر تدشين "جمهورية جديدة". ورحّب جميعهم بحلّ البرلمان المنتخب، وبالانتقال السّريع نحو تركيز دعائم حكم رئاسوي/ أحادي، عانى معظم التّونسيين ويلاته عقودا زمن ما يعرف بدولة الاستقلال. ولم يُبدوا اعتراضا صارما على حلّ هيئة مراقبة دستوريّة القوانين، والمجلس الأعلى للقضاء. بل أيّدوا حكم الرئيس البلاد بالمراسيم، وباركوا توسيع صلاحياته، وتمديد نفوذه ليشمل كلّ السّلطات. وساندوا خريطة الطريق الرئاسيّة، بدءا بالاستشارة الإلكترونيّة مرورا بإلغاء الدستور والاستفتاء عليه، وصولاً إلى تنظيم انتخابات تشريعيّة في منتصف ديسمبر/ كانون الأول المقبل. وبذلك، إعلان الطّاعة والولاء لرئيس الجمهوريّة هو أعدل الأشياء قسمةً بين الأحزاب المذكورة، وهو ما يجعل خطابها السّياسي مفرغا من الطاقة النقديّة، مفتقرا لقوّة الاقتراح والتغيير وإحداث التأثير باعتبارها أحزاباً اختارت أن تكون تابعةً للنظام الحاكم، ملحقة بقصر الرئاسة على كيفٍ ما.

اختارت أحزاب الموالاة في تونس أن تلعب دوراً مشهدياً وظيفياً، تبريرياً، يخدم سلطة النظام القائم بعد حركة 25 يوليو

في مستوى الامتداد الشعبي، تحاول أحزاب الموالاة الاستثمار في شعار الولاء للرئيس قيس سعيّد لتستقطب أنصاره، وتستقرب أتباعه، وتجعلهم مشروع خزّان انتخابي داعم لها خلال الانتخابات التشريعيّة المقبلة، فحركة الشعب مثلاً تروّج بين الجمهور المستهدف شعار أنّها "حزب الرئيس"، وأنّها تروم "افتكاك الدولة من هيمنة المافيات وحركة النهضة". وفي السّياق نفسه، يعتبر التيار الشعبي قيس سعيّد رجل المرحلة، ويرى البريكي والناصري أنّ مناصرته وتأييد مساره السياسي يأتيان في إطار الانحياز لمطالب الشعب وتوقه إلى التغيير. ويبدو أنّ هذا المدح المبالغ فيه للرئيس وأنصاره هو من طرف واحد، ولا يجد التجاوب المأمول من الرئيس وجمهوره، فأحزاب الموالاة تعاني من أزمة اعترافٍ مضاعفة. والتنسيقيات (اللجان) المناصرة لرئيس الجمهورية تؤسّس وجودها على نقض الأحزاب على اختلافها، وتعتبرها مسؤولةً عن الفساد والخراب المشهودين في البلد. وهي لا تعترف بأحزاب الموالاة، ولا تقبل التعاون معها، بل تعتبر نفسها بديلا عنها. كما أنّ الرئيس سعيّد لا يعترف بدور فاعل للأحزاب في "جمهوريته الجديدة". والدليل على ذلك أنّه لم يلتفت إليها في بلورة الاستشارة الإلكترونيّة، ولم يعتدّ بمقترحاتها في صياغة الدستور الجديد، بل صاغه بنفسه، ولم يضمّنه سوى فصل يتيم، موجز بشأن الأحزاب.

والواقع أنّ أحزاب الموالاة فشلت بعد 25/07/2021 في تحشيد الناس حول مشروع الرئيس، فلم تنجح في تحفيز المواطنين على المشاركة في الاستشارة الإلكترونيّة التي لم يتجاوز عدد المشاركين فيها نسبة 5% من التونسيين. كما لم تفلح في توعيتهم بأهمية المشاركة في الاستفتاء على الدستور الذي قاطعه زهاء 70% من المواطنين الذين يحقّ لهم التصويت. بالإضافة إلى ذلك، فشلت أحزاب الموالاة في تحريك الشارع بكثافة لمناهضة التدخّل الأجنبي في الشأن التونسي، ولتأييد التدابير الرئاسيّة الاستثنائية، وفي مقدّمتها حلّ البرلمان والمجلس الأعلى للقضاء. وفي المقابل، نجحت أحزاب المعارضة ممثّلة في جبهة الخلاص الوطني، وجبهة الأحزاب الديمقراطيّة الاجتماعيّة، في إقناع طيفٍ معتبرٍ من الرأي العام في الدّاخل والخارج بأنّ ما حصل في تونس انقلاب، وفي دفع كثيرين إلى مقاطعة الاستشارة الإلكترونية والاستفتاء على الدستور الجديد، ونظّمت تظاهرات حاشدة ضدّ تدابير الرئيس وتوجهاته السلطويّة. وأخبر ذلك بأنّ أحزاب الموالاة لا تحظى بحاضنة شعبية واسعة. وعلى خلاف ذلك، يبدو أن جبهة الأحزاب المعارضة باقية وتتمدّد.

نجحت أحزاب المعارضة في إقناع طيفٍ معتبرٍ من الرأي العام في الدّاخل والخارج بأنّ ما حصل في تونس انقلاب

أمّا في مستوى مشروعيّة الفعل السياسي، فإنّ أحزاب الموالاة تواجه مفارقة ادّعائها الانتصار للثّورة من ناحية، ومشاركتها في تزكية تصفية مكتسباتها الديمقراطيّة من ناحية أخرى. فما مشروعية سكوتها عن تراجع الحقوق والحرّيات، وتسليمها بإلغاء الدستور وقبولها بتجميع السلطات بيد شخص واحد؟ وإلى أي مدىً يمكن التسليم بزعمها أنّ ما حصل تصحيح للمسار الثوري لا انقلاب عليه؟ وما مصير تلك الأحزاب في حال لم تحقّق المنظومة الحاكمة الجديدة الأهداف الاقتصاديّة والاجتماعيّة للتصحيح المزعوم؟ لذلك يذهب مراقبون إلى أن أحزاب الموالاة تتحمّل نسبيّا مسؤولية المساهمة في إحياء مشروع الدولة الشموليّة/ الأحادية في تونس، ورهنت مستقبلها السياسي بمستقبل الرئيس قيس سعيّد، مرجّحة البراغماتيّة الظرفيّة على أخلاقيّة العمل السياسي.

ختاماً، يمكن القول إنّ أحزاب الموالاة اختارت أن تلعب دوراً مشهدياً وظيفيّاً، تبريرياً، يخدم سلطة النظام القائم بعد حركة 25 يوليو2021، وهو دورٌ قد يجعلها، على التدريج، أحزاب ديكور، غير مؤثرة في الناس وفي صنّاع القرار. بل تكتفي بأداء البيعة للرئيس.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.