عندما يكذب دريد لحام
تفوز الحكومة بجائزة عيد الكذب سنويا، في مسرحية "غربة" (1976)، ويتسلّمها دريد لحام في تأديته دور مختار الضيعة. أما في حديثه للصحافيين، على هامش مهرجان الاسكندرية السينمائي الأسبوع الماضي، فقد استحقّ دريد لحام (87 عاما) بشخصِه، لا بدورٍ يؤدّيه، جائزة الكذب، حقيقةً لا هزلا في مسرحيةٍ كوميديةٍ، لمّا قال إنه يخاف المخابرات أكثر من الله. وهذه أولا عبارةٌ غير مهذّبة، وكان الأدعى ألا ينطق بها في سياقٍ ضاحك، أراد فيه القول إنه يدعو إلى محبّة الله لا إلى الخوف منه. وهي أيضا تضجّ بكذبٍ صريحٍ جهر به الفنان الشهير أمام الناس، فيستحيل أنه يخاف المخابرات في بلده سورية، ليس فقط لأنه نفسُه الذي قال مرّة ما هو معلوم ومشهور، إن مسرحياته كانت تحظى بدعم حافظ الأسد، وإنما لأن من يُدعى إلى القصر الجمهوري في دمشق ليشهد حفلات تأدية بشار القسم لولايات رئاسية (ما عددها؟)، في يوليو/ تموز الماضي وفي سابقاتها، ويزهو بهذه الدعوات مفتخرا، لا يمكن أن تخيفه المخابرات. وعندما يزور النجم الفنان، الموهوب طبعا، موقعا عسكريا للجيش السوري، داعما ما يقترفه هذا الجيش من جرائم مشهودة، في غضون استهداف السوريين الغاضبين من سلطة الاستبداد والفساد، يستحيل أن يشعر مرّة بأي خوفٍ من المخابرات. وإذا كان غوّار الطوشة أراد حقّا التمييز بين الرعب والمحبّة، والتأكيد على الإيمان بالله ومحبّته بدل الخوف منه، فإن كلامه هذا (وكثير غيره) لا يستقبله الجمهور العربي، وفي المقدّمة منه السوري، بغير الاستهجان والاستغراب، بل وربما باستنكار أن يخوض فيه دريد لحام بالذات، ذلك أن الرجل ضنّ بأي مفردة حنانٍ ومحبّةٍ وعطف، في السنوات العشر الماضية، على الضحايا من بني وطنه، وسقطوا قتلى أو أُخذوا إلى التعذيب في معتقلات الأسد وسجونه أو الذين نفوا أنفسهم إلى أرباع الأرض (ثمّة لاجئون سوريون في أثيوبيا والصومال).
ما زال على واقعيّته في سورية، وفي غير بلدٍ عربي، طلب غوّار الطوشة من أبو نارة في مسرحية "ضيعة تشرين" (1974) أن يفتح الراديو على إذاعة لندن، ليعرف ما يحدُث في الضيعة، غير أن الأمر في معرض المتحدَّث عنه هنا يستدعي السؤال عن المصادر التي يعرف منها دريد لحام أخبار بلده، هل هو الإعلام الكاذب الحكومي في بلده، والتهريج الدعائي إياه الذي يُحسَب لحام نفسُه من أعلامه وأدواته، أم الحقائق الذي تنطق بها صور المقتلة السورية المشهودة، في مشاهد تغريبة العذاب والطرد والنبذ والتهديم الراهنة. شوهد غوّار، في "كاسك يا وطن" (1979)، يخبر والده المتوفّى عن نقصان الكرامة، وشوهدت في تلك المسرحية وسابقاتها ولاحقاتها من أعمال دريد وزملائه مقاطع كانت غايةً في الجرأة في زمنها، وهي تشخّص سلطة المخابرات واستبداد الحكام وكذب المسؤولين. وشوهد الفنان في محاورةٍ تلفزيونيةٍ معه، قبل ثلاثة أعوام، يحكي عن تلك الأعمال مفتخرا بأنه كان يُقال فيها ما لا يُقال، ويتهكّم، في الوقت نفسه، على "طلاب الحرية" الحاليين، ساخرا من تسمية ما يفعلون ثورةً وانتفاضة وأشواقا إلى الحرية والعدالة والأمن والأمان والكرامة الإنسانية. في تلك الغضون البعيدة، كنا نسأل ما إذا كانت "أعمالا تنفيسية" مأذونا بها مسرحياتُ دريد لحام ونهاد قلعي، ولم نكن نقع على إجابةٍ مؤكّدة، فالمهم أنها وازت الإضحاك بالمتعة، وأقامت المعادلة الفنية التي تحقّق الحاذبية والإفادة، وتنحاز، في الأثناء، إلى حريات الإنسان العربي وتطلعاته من أجل عيش أحسن وأيسر.
ذلك أرشيفٌ يُستدعى كثيرٌ منه كلما صودفت لدريد لحام المباذل التي لا يكفّ عنها، وهو ينتصر لسلطة الفساد والاستبداد في سورية، وهو يصفّق للأسد الابن (لطالما صفّق للأسد الأب)، وهو يرى في روح خامنئي القداسة، وفي عينيه الأمل، وهو يتعامى عن مكابدات أطفال سوريين مع الجوع والبرد، فيما هو سفير سابقٌ للطفولة في الأمم المتحدة، يشبّح في غير مناسبةٍ وعلى غير شاشةٍ وفي غير بلد... وهذا هو في جديده أخيرا يُغالي في الكذب والادّعاء، وفي التهريج السمج من دون اكتراثٍ بالخصوصيات والحساسيات، ويخوض في أمرٍ لا قدرة لديه في الحديث فيه.. ويدّعي خوفه من المخابرات.