عندما يصعّد أردوغان المواجهة مع الغرب

05 يونيو 2022

أردوغان في اجتماع لحزب العدالة والتنمية في أنقرة (4/6/2022/Getty)

+ الخط -

كان الشهر الماضي (مايو/ أيار) حافلاً في السياسة الخارجية التركية على أكثر من صعيد. في الأسبوع الأول منه، أعلن الرئيس رجب طيب أردوغان معارضة بلاده خطط ضم فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ثم تلا ذلك إعلان عن اعتزام تركيا شنّ عملية عسكرية جديدة ضد وحدات حماية الشعب الكردية في شمال سورية. وبعد ذلك، قرّرت أنقرة وقف المحادثات رفيعة المستوى مع اليونان، ردّاً على ما اعتبرته تحريضاً من رئيس الوزراء اليوناني، كيرياكوس ميتسوتاكيس، للكونغرس الأميركي لعرقلة مشروع بيع تركيا مقاتلات من طراز إف 16. التوتر الدائم بين أنقرة والغرب هو القاعدة الأساسية التي تُدير العلاقات منذ سنوات، وبالتحديد بعد عام 2014، فيما الهدوء الذي يطرأ على العلاقات بين الفينة والأخرى استثناء ولا يصمد طويلاً. على الرغم من أن العلاقات التركية الغربية لم تكن مستقرّة تماماً عقودا طويلة، إلاّ أن هذه الحالة لا تبدو طبيعية، وتعكس بصورة رئيسية حجم المأزق الذي وصلت إليه الشراكة بين الطرفين، بفعل السياسات المتناقضة لهما في معظم القضايا الخارجية التي تعني الطرفين. كانت النزعة الاستقلالية لتركيا في سياستها الخارجية عن الغرب المغذّي الرئيسي لتراجع العلاقات إلى مستوى متدنٍّ في السنوات الأخيرة.

لدى كل من أنقرة والعواصم الغربية تفسيرات مختلفة لسبب تراجع العلاقات ومبرّرة لكلا الطرفين. فمن جانب، ترى تركيا أن الدعم الغربي وحدات حماية الشعب الكردية بعد 2014، وموقف الغرب الباهت من محاولة الانقلاب العسكري ضد أردوغان في 2016، واصطفاف أوروبا إلى جانب اليونان وقبرص الجنوبية في نزاعهما مع أنقرة سبباً رئيسياً لهذا التراجع. فيما يرى الغربيون أن ابتعاد تركيا في ظل حكم أردوغان عن القيم الديمقراطية وتقاربها مع روسيا يُشكلان تهديداً لمفهوم الشراكة التركية الغربية. في الواقع، يُمكن المجادلة في مدى صوابية كل هذه التفسيرات، لكنّ الحقيقة التي يُجمع عليها الطرفان أن هذه الشراكة لا تزال حاجةً لكليهما. في الواقع، عزّزت التداعيات التي أحدثتها الحرب الروسية الأوكرانية على السياسات الدولية هذه الحقيقة، ودفعت الجانبين إلى الانخراط في جهود لإعادة ترميم العلاقات. تكمن المشكلة الرئيسية في المعضلة التي تواجه العلاقات التركية الغربية في أن الغرب تجاهل على مدى الأعوام الماضية معالجة المشاكل التي تسببت بها سياساتها تجاه أنقرة. وقد ولّد هذا التجاهل ردّات فعل من تركيا ودفعها إلى تبنّي سياسات خارجية متمايزة عن الغربيين في قضايا دولية كثيرة.

الموقع الجيوسياسي المتميز لتركيا في السياسات الدولية نقطة قوة لها في تحسين موقفها في العلاقات إن مع الغرب أو مع روسيا، لكنه أيضا، يجعلها أكثر عرضة للضغط من هذه الأطراف

رغم أنّ معظم المسؤولين الغربيين يُلقون باللوم على حكم الرئيس أردوغان في تردّي العلاقات، إلاّ أن الحقيقة التي لا يُمكن للغرب نكرانها أن هذه العلاقات لم تشهد تطوراً كبيراً إلاّ في عهد أردوغان. لقد دفعت رغبته في انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي مطلع العقد الأول من الألفية الثانية إلى تطوير العلاقات التركية الأوروبية على نحو كبير. كما انخرطت تركيا بفعالية أكبر في حلف الناتو. كانت تركيا الدولة المسلمة الوحيدة التي أرسلت قوات ضمن الحلف إلى أفغانستان بعد الغزو الأميركي لإنهاء الحرب في هذا البلد. كما ساهمت معارضتها الحرب الروسية على جورجيا في 2008، ثم ضم روسيا شبه جزيرة القرم في 2014 في الحفاظ على توازن القوى مع موسكو في البحر الأسود، من دون الحاجة إلى تدخل "الناتو". وفي الحرب الروسية أخيرا على أوكرانيا، لم تحل الشراكة التركية الروسية في دفع أنقرة إلى تبنّي موقف معارض لهذه الحرب، والوقوف إلى جانب كييف، وتزويدها بطائرات مسيّرة. كما أغلقت البحر الأسود في وجه السفن الحربية الروسية التي تعبر إلى البحر المتوسط، وقيّدت أيضاً مجالها الجوي أمام روسيا من سورية وإليها. من المفيد سرد هذه الأحداث لتأكيد أن النهج المتوازن الذي تسعى أنقرة إلى تبنّيه في العلاقة بين روسيا والغرب ذو فائدة كبيرة للغرب، وليس لها وحدها.

شكّلت الحرب الروسية الأوكرانية فرصة مناسبة لتركيا والغرب على حد سواء، لإعادة تشكيل علاقتهما. وعلى الرغم من الرغبة المشتركة التي أبداها الطرفان في هذا المجال، لم يُصدر الغرب أي إشارات عملية تفيد باستعداده لتسوية القضايا الخلافية مع أنقرة، باستثناء بعض خطوات أميركية، كإبداء إدارة بايدن استعدادها لتزويد تركيا بمقاتلات إف 16 تسوية محتملة لأزمة إخراجها من تصنيع مقاتلات إف 35. علاوة على ذلك، ما زال الاتحاد الأوروبي يتبنّى موقفاً منحازاً لليونان وقبرص الجنوبية، رغم ميل تركيا إلى تهدئة الصراع في شرق المتوسط خلال العامين الماضيين، وموافقتها على استئناف المحادثات الاستكشافية مع أثينا. وعلى صعيد مسألة وحدات حماية الشعب الكردية، فإنه على الرغم من انتفاء مبرّرات مواصلة الدعم الغربي لها بعد انتهاء الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، لا تزال الولايات المتحدة متمسّكة بشراكتها مع هذا التنظيم الذي يُشكل امتداداً لحزب العمال الكردستاني المصنف إرهابياً ليس لدى أنقرة فحسب، بل أيضاً لدى الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

أثبتت التجارب أن مواصلة تجاهل الغرب مصالح تركيا الأمنية سيدفعها إلى تبنّي سياسات أكثر استقلالية عن الغربيين، وسيُعمق شراكتها مع روسيا

وضع تركيا الفيتو على توسع حلف شمال الأطلسي، وتلويحها بشنّ عملية عسكرية جديدة ضد الوحدات الكردية في شمال سورية، إلى جانب تصعيد موقفها ضد اليونان، يُشير إلى رغبة أردوغان في فرض كل هذه القضايا على الأجندة التركية الغربية مقدمة لأي عملية لإعادة إصلاح العلاقات. على عكس السنوات الماضية، التي استطاع فيها الغرب التهرّب من تسوية هذه القضايا، إلاّ أن الظروف الراهنة لا تبدو مساعدةً له لمواصلة هذه اللعبة التي تسبّبت بإفساد العلاقات على نحوٍ لم يعد من الممكن إصلاحها بسهولة. يبرز الموقع الجيوسياسي المتميز لتركيا في السياسات الدولية نقطة قوة لها في تحسين موقفها في العلاقات إن مع الغرب أو مع روسيا، إلاّ أنّه، في المقابل، يجعلها أكثر عرضة للضغط من هذه الأطراف. رغم محاولات أنقرة والغرب ربط النزاعات بينهما خلال العامين الماضيين، إلاّ أن عودة الخلافات إلى الظهور تؤكّد أن تكاليف مواصلة النهج الغربي في إدارة العلاقات مع تركيا ستكون باهظةً على نحو أكبر من الماضي في حال لم يتعامل الغربيون بجدّية مع هواجس أنقرة المشروعة.

يجب على الدول الغربية أن تأخذ عزم أردوغان على عرقلة توسع "الناتو" وتوسيع حدود المنطقة الآمنة في شمال سورية وتصعيد الخلاف مع اليونان على محمل الجدّ، وليس مجرّد مناورة لابتزازهم كما تعتقد. لم تعد تركيا قادرةً على التعايش مع الدعم الغربي لتنظيمٍ يُشكّل تهديداً لأمنها القومي، كما لم تعد مستعدّة لقبول تحويل اليونان إلى قاعدة عسكرية أميركية لمحاصرتها كما قال أردوغان مرّة. لقد أثبتت التجارب أن مواصلة تجاهل الغرب مصالح تركيا الأمنية سيدفعها إلى تبنّي سياسات أكثر استقلالية عن الغربيين، وسيُعمق شراكتها مع روسيا. كما أن سياسة العقوبات التي انتهجها الغرب مع تركيا لم تُفلع في ثنيها عن هذا التوجه. ينظر الغربيون إلى تركيا شريكاً مزعجاً، لكنّ سياساته تجاهها لعبت دوراً رئيسياً في جعلها مزعجةً لهم. بالنسبة لأردوغان، معركته الجديدة مع الغرب مكملة لمعاركه السابقة، لكنّها تختلف، هذه المرّة، من حيث النتائج التي ستفرزها، فهي ستحدّد ما إذا كان الغربيون مستعدّين لإعادة تشكيل العلاقات مع تركيا على أسس جديدة، والنظر إليها شريكاً استراتيجياً لا يمكن لعلاقة مع تنظيم مسلح أو شراكة استراتيجية مع دولة أوروبية مجاورة لها أن تعوّضا مكانة أنقرة في المنظومة الأطلسية.