عندما يصبح انهيار العملة اللبنانية بلا قاع
يمر عيد الأمهات هذا العام على اللبنانيين وهم في حالة من الذهول أمام شاشات الهواتف، يراقبون تهاوي سعر صرف عملتهم الوطنية الذي يسحق ما تبقى لهم من مقدرة على البقاء. كان اللبنانيون حتى في عزّ أزماتهم يحتفون بأمهاتهم في 21 مارس/ آذار كل عام، فيحضرون الهدايا ويقيمون الموائد وينشغلون بهذه المناسبة في مدارسهم وبيوتهم وفي الأماكن العامة في المطاعم والمتنزّهات، كلّ على طريقته. لكنهم اليوم يشعرون باليُتم الكبير، حيث هم متروكون ينظرون إلى تهاوي قدرتهم على العيش بهذا التسارع المريع، من دون أن يتصدّى لهذا الانهيار أحد، ومن دون أن يكون لهم القدرة على مواجهته.
بعد التراجع الكبير لسعر صرف الليرة اللبنانية يوم الاثنين (20 مارس/ آذار) بحيث تجاوز حدّ 120 ألف ليرة مقابل الدولار الواحد، وحيث لم يتدخّل أحد، لا الحكومة ولا وزارة المالية ولا البنك المركزي وحاكمه رياض سلامة، للحدّ من تهاوي سعر صرف الليرة، وفي ظل إضراب القطاع المصرفي المتواصل، يمتنع الصرّافون عن شراء العملة الوطنية منذ صباح الثلاثاء، ما جعل تهاوي قيمتها بلا قاع، فتسارعت بشكل مرعب أخبار هذا الانهيار بحيث وقف المواطنون مشدوهين أمام الشاشات يراقبون لحظة بلحظة هذا الانهيار المتسارع: 130 ألفا، 132 ألفا، 135 ألفا، 137 ألفا، 140 ألفا ... 143 ألف ليرة مقابل الدولار الواحد، وما من يشتري!
ما من قاعٍ لهذا السقوط المتسارع للعملة الوطنية في لبنان، طالما ليس هناك من رادع. لبنان بلا عملة وطنية. وهذا نتيجة حتمية لكون لبنان بلا دولة، فلا عملة بلا دولة، فالدولة اللبنانية قضت نحبها منذ أسلمت قيادها بشكل كامل لمجموعة مؤتلفة/متخاصمة من المافيات، بعضها وريث الحرب الأهلية، وبعضها وريث الوصاية الأسدية، وبعضها الثالث يتمسّك بتحالف تبادل المنفعة مع أخريات، وعلى رأسها جميعها مليشيا مدجّجة بالسلاح وإيديولوجيا ترتبط بنظام الملالي الذي يحتلّ إيران ويمدّ أذرعه المسلحة بالعتاد وبالجهل من العراق إلى سورية إلى اليمن.
ما من عملة وطنية بلا دولة. وما من دولة بدون سيادة. وما من سيادة بدون قرار وطني مستقل، يصدُر عن مؤسساتٍ وطنية يحكمها القانون الذي هو فوق الجميع ضمن حدود تلك الدولة، الحدود المصونة من مؤسسة وطنية واحدة، تخضع حكما للمؤسسات السيادية المتمثلة بالسلطات الشرعية المنتخبة بصدق من مواطنين أحرار متساوين.
فُرض على صغار المودعين الذين يضطرّون لسحب جزء من ودائعهم لحاجاتهم الحياتية، أن يسحبوا نصف المبلغ المطلوب بالليرة اللبنانية بسعر صرف يعادل أقل من 35% من السعر في السوق الموازية
كان على الليرة اللبنانية أن تنهار منذ سنوات، لكن القوى المتحكّمة سياسيا واقتصاديا عملت على تأخير ذلك، ليس من أجل الحفاظ على مستوى معيشة مقبول للبنانيين، بل لأنها كانت أداة رئيسية في ممارسة النهب المنظم لأموال الدولة واللبنانيين مودعين وغير مودعين. وخلال الثلاث سنوات الأخيرة، كانت أداة رئيسية في إطفاء أكثر من نصف "خسائر" البنوك بالدولار من خلال المصطلح المبتكر "اللولار"، بحيث فُرض على صغار المودعين الذين يضطرّون لسحب جزء من ودائعهم لحاجاتهم الحياتية، أن يسحبوا نصف المبلغ المطلوب بالليرة اللبنانية بسعر صرف يعادل أقل من 35% من السعر في السوق الموازية، ما أدّى الى "هيركت" غير معلن وغير قانوني، مورس غصبا وبشكل جائر على صغار المودعين دون سواهم. أما سائر الموظفين فقد انهارت رواتبهم وقدراتهم الشرائية بنسبة انهيار العملة الوطنية التي تجاوزت الـ98%.
واليوم، حيث بات انهيار العملة الوطنية متسارعا بدون قاع، فإن كل ما أقرّ من رفع لرواتب الموظفين والعسكريين وكل العاملين في القطاعين العام والخاص الذين يتقاضون رواتبهم بالليرة اللبنانية، وما أقر من مساعدات اجتماعية، قد تبخّر. وكذلك باتت مؤسسات الضمان الاجتماعي وكل المؤسّسات الضامنة التابعة للدولة وللنقابات بلا جدوى، إذ إنها باتت عاجزة تماما عن تقديم أي عون ذي قيمة للمضمونين. كما أن المطالبات والإضرابات التي شهدتها القطاعات التعليمية والإدارية التابعة للدولة وللقطاع الخاص باتت بلا معنى، طالما اقتصرت مطالباتها على تعديل الرواتب أو تصحيحها، فما الجدوى من زيادة الرواتب التي سرعان ما يبتلعها انهيار متسارع للعملة الوطنية؟
هل يكون للبنان دولة وللبنانيين عملتهم الوطنية إذا ما فُرضت على القوى المسيطرة ذاتها تسوية تعيد تقاسم الحصص في مؤسسات الدولة، وتعيد تقاسم مغانم السلطة بينها، أم أن مرحلة جديدة من "كلّن يعني كلن" قادمة لا محالة؟