عندما يتجدد "داعش" ويحاول النهوض

26 يناير 2022
+ الخط -

احتفل الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، بهزيمة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في 2019، وفعل الرئيس الروسي، بوتين، الأمر عينه. والاثنان قائدا أعظم دولتين، والأكثر تدخلاً في سورية، وبالتالي الأكثر مسؤوليةً عن كل مجريات الوضع السوري. ولكن، كيف عاد المهزوم إلى الظهور. سبق اقتحام سجن غويران (جنوب الحسكة شمال شرقي سورية) صدور تقارير كثيرة تؤكد أن التنظيم الإرهابي استعاد الكثير من قوته في سورية والعراق، وراح يشنّ عمليات عسكرية كثيرة، ويحارب على جبهات قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وأميركا وروسيا وإيران والنظام؛ الاقتحام الأخير، كان إعلاناً كبيراً، أن مرحلة التمكين أصبحت متقدّمة، ولا بد من عملية عسكرية، تجذب الأنصار، وتخرج "السجناء" وتقوم بواجب الوفاء لأعضاء التنظيم المعتقلين.

عملية ذكية من تنظيمٍ إرهابي، وتزامنت، مع عملية قوية ضد الجيش العراقي في مدينة ديالا. أحدثت العملية خوفاً كبيراً في المدن الشرقية السورية، وفي الموصل وسنجار ومدن أخرى. ويأتي خوف الناس من عدم تجفيف البيئات التي احتضنت التنظيم، ورداءة الأوضاع في المناطق التي سيطر عليها "داعش" قبل هزيمته، وبسبب كارثية الوضع العام في شرق سورية وغرب العراق، حيث تُركت المناطق المدمّرة "بعد الانتصار" كما هي، ومن دون أيّ خدمات ذات معنى. الاستنتاج الوحيد هنا أن المسيطرين في العراق والإدارة الذاتية (الكردية) في الحسكة وفي دمشق وفي إيران، وكذلك الإدارتان، الأميركية والروسية، لا يريدون الإجهاز على التنظيم، وأن الاستثمار فيه لم ينته، حيث لم يتم الوصول إلى صفقةٍ تخصّ الوضع السوري، وما زالت الأزمة السياسية مفتوحة في العراق. وهذا يعني أن لا مصلحة لأحد، بما فيه الإدارة الذاتية، في تحسين أوضاع المدن الشرقية، وفي إحالة المعتقلين لديها إلى المحاكم.

لا تنتهي التنظيمات الجهادية إلّا بالقتال، فإمّا أن تنتصر أو أن تُباد، ويعتقل عناصر كثيرة منها

لا تنتهي التنظيمات الجهادية إلّا بالقتال، فإمّا أن تنتصر أو أن تُباد، ويعتقل عناصر كثيرة منها. طبعاً لا يخطئ من يرى أنّها شركات استثمارية دولية، توظفها الأجهزة الأمنية من أجل زعزعة الاستقرار في هذه الدولة أو تلك، وتخريب الثورات العربية، أو تركيع بعض الأنظمة، أو توجيه التهم إلى أنظمةٍ تحميها، وطبعاً تُستثمر كأدوات للتخريب بين الدول العظمى، كما جرى في أفغانستان، وسواها. هذا ليس كل شيء، فهناك الأيديولوجيا، وحرب العقائد، والحرمان والمظلوميات. الأخيرات تتجه نحو الجهادية كلّما تأزم الوضع الداخلي، وغابت الديموقراطية والأحزاب الحداثية القوية؛ حيث لا تبقى للمجتمع قوة تدافع عنه إلّا تلك الجهاديات. بعد الانتصار المزعوم على "داعش"، في العراق أو سورية، لم تجرِ أيّ عملية تنمية اقتصادية أو تصالح مجتمعي أو اعترف سياسي، ومورست عمليات ثأرٍ من المناطق التي حكمها "داعش"، وسكن أغلبية النازحين في مخيمات رديئة، وعوملت المخيمات، وكأنها سجون حقيقية، ونُظِرَ إلى الناس في المدن الشرقية في سورية على أنهم دواعش؛ الأمر ذاته في العراق. الواقع المتأزم هذا لا يمكن أن ينتج شيئاً آخر إلا "داعش"، أو أسوأ منه.

لم يكن لـ"داعش" أو أيّ تنظيماتٍ جهادية من وجودٍ في زمن صدّام حسين، وكذلك قبل عام 2011 في سورية. وفي حال وجود تنظيمات كهذه في هذه الدولة أو تلك، كان يتم محاصرتها والإجهاز عليها سريعاً. تنمو التنظيمات المتطرّفة، في المناطق الأقل استقراراً، والأكثر حرماناً ومظلوميةً، وحينما تُواجَه بجهادياتٍ أخرى، كما حال التنظيمات الجهادية الشيعية، أو التعصّب الكردي الذي يتبناه تنظيم حزب العمال الكردستاني وتابعه حزب الاتحاد الديمقراطي. المظلوميات الدينية لا تنتج شيئاً آخر إلا الجهاديات المسلحة. هل ما نقوله هنا غير معروف، أو فيه جديد نوعي؟ لا. القضية تكمن في المأزق الذي تعاني منه العملية السياسية في سورية، وفي الخلافات بين الدول المتدخلة في سورية، وغياب أيّ عمليات تنمية، وعدم طي الانقسامات التي استُثمِر فيها بعد 2011، الطائفية والقومية والمناطقية. في ظل هذا الوضع، لا ينتهي "داعش"، وها هي هيئة تحرير الشام تقيم "دولتها"، باعتراف تركيا والإدارة الأميركية والنظام السوري وروسيا. ليس استمرار سيطرتها على إدلب وأرياف من حماه وحلب لأجل ألّا تتدفق وفود اللاجئين نحو أوروبا، بل تتعلق استمراريها بغياب أفقٍ للعملية السياسية، وسهولة الاستثمار فيها من هذه الدولة أو تلك. وبالطبع، لا قيمة لثرثرات أبو محمد الجولاني، وحكاياه السمجة بخصوص تحرير العاصمة.

تقليص وجود التنظيمات الجهادية مرتبط بالتوافق على حلٍّ للوضع السوري، والبدء بالعملية الانتقالية، وإعطاء السوريين دوراً مركزياً في فرض الاستقرار

تحتوي المعتقلات والسجون تحت الإدارة الذاتية (الكردية) أكثر من خمسة وعشرين ألف شخص، وفي سجن غويران، خمسة آلاف متعدّدو الجنسيات، ودول كثيرة ترفض استقبال عناصرها منهم. الغريب في ذلك كله، أولاً، العدد الكبير، وثانياً، تشكيك مراقبين كثيرين في أنهم جميعاً دواعش، وثالثاً عدم تخصيص محاكم معنية لينالوا جزاءهم. وبالتالي، يتغذى "داعش" ويقوى على تلك المظلوميات، ويقدّم نفسه مدافعٍا صلباً عن حقوق السجناء المسلمين، والعرب بالتحديد. وهذا يلقى هوىً كبيراً، على قاعدة المحرومية من أيّ خدمات، وكذلك غياب قادة العشائر الأقوياء. وطبعاً لم تتقدّم المعارضة السورية بأيّ مشاريعٍ، لمناقشة أحوال السجناء، أو المناطق المحرومة، وعكس ذلك، تشدّدت ضد الإدارة الذاتية الكردية، وهذا عزّز أيديولوجية "داعش"، حيث ترى أن العرب والمسلمين يظلمهم الكرد، وليس من مدافع عنهم سوى من أقام دولة الخلافة، وغزا المناطق الكردية في سورية والعراق، وسيكرّر "داعش" الفعل ذاته. السردية هذه، وُضعت الآن على الطاولة في سورية والعراق. وبالتالي، سنرى نزوحاً جديداً وكبيراً في مناطق كثيرة في سورية والعراق. الدولة في العراق، وضمناً إقليم كردستان، تتحمّل المسؤولية عن غياب التنمية الحقيقية، والأزمة السياسية، وبقاء إيران لاعباً سياسياً في خراب العراق وسورية. في سورية، هناك انهيار كامل للخدمات، وأشارت إلى بعض أحوال الناس "السنة" في المناطق الشرقية، وبالتالي سيجد هذا التنظيم أرضاً خصبة للحراثة.

ستتمكن الإدارة الكردية، المدعومة من قوات التحالف الدولي، من القضاء على فلول سجناء "داعش" من سجن غويران، وأغلب الظن لن يتمكّنوا من الهرب، وستنال الإدارة دعماً جديداً من التحالف ومن الإدارة الأميركية. سيعاني العرب في الأحياء المحيطة بالسجن، وتتحدث تقارير عن عمليات تهجير ممنهج منها، استناداً إلى اختباء عناصر هاربة فيها والقتال منها.

داعش" هو نتيجة ضرورية وليس مقدّمة للأحداث، وبتغيّر وجهة الأحداث سيُحاصَر التنظيم، ويتلاشى

تقليص وجود التنظيمات الجهادية مرتبط بالتوافق على حلٍّ للوضع السوري، والبدء بالعملية الانتقالية، وإعطاء السوريين دوراً مركزياً في فرض الاستقرار، ورفض أيّ تقسيمات مجتمعية على أسسٍ طائفيةٍ أو قومية، والبدء بالعدالة الانتقالية، والتصالح المجتمعي. هذه الأجواء هي ما يسمح بكفِّ أيدي الدول عن اللعب بورقة الجهادية، وستتم محاصرتها مجتمعياً، وقد ارتكبت مجازر كبيرة بالبيئات التي يقال إنها أنتجت داعش. وبالتالي، لم يولد "داعش" من العدم، أو أُخرج من نصوص قديمة. لا، "داعش" هو نتيجة ضرورية وليس مقدّمة للأحداث، وبتغيّر وجهة الأحداث سيُحاصر التنظيم، ويتلاشى.

من دون فكرتنا الأخيرة، سنشهد إماراتٍ جديدةٍ لداعش في سورية أو العراق؛ فمن المستفيد من إنهاء الظاهرة الجهادية أو تجديد فتوتها؟