عندما تُضعف الاستدارة صوبَ دمشق الموقف التركي

16 نوفمبر 2022
+ الخط -

انعكس القرار التركي فتح علاقات سياسية مع دمشق، سلباً على الأتراك، على أرض الواقع، في مناطق النفوذ التركي، ولدى المعارضة السورية الموالية لأنقرة، من حيث اهتزاز الثقة بالداعم التركي، والبحث عن دعمٍ مضمون أكثر يحقّق مصالح تلك الأطراف المعارضة من فصائل وسياسيين ورجال دين، لأنهم يدركون أن نظام الأسد لن يقبلهم في أي اتفاق مصالحة، برعاية روسية وتركية، وأن اتفاقاً كهذا سيكون على حسابهم، وهم لا يثقون بأي ضمانات روسية أو إيرانية. كانت هناك مفاوضات من الجبهة الشامية وجيش الإسلام، مع الأميركان، في إمكانية تسليحهم، وتشكيل غرفة عزم، وفتح باب التنسيق مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وحديث عن اتصالات أخرى مع دول عربية، وبالأصل هذه الفصائل لا توافق أنقرة على كل سياساتها، مثل تجنيد السوريين للقتال خارج سورية، وإدارة المعابر، وسياسات التتريك. وهناك تململٌ أيضاً داخل الائتلاف السوري المعارض، والمجلس الإسلامي السوري، الذي يدعم الجبهة الشامية والفيلق الثالث، في محاولة الهيمنة على الجيش الوطني. وهناك الاحتقان الشعبي في مناطق الشمال تجاه التوجّهات التركية الجديدة، التي تصاعدت بعد حادثة اغتيال الناشط والصحافي محمد عبد اللطيف (أبو غنوم)، من عناصر تابعة لفرقة الحمزة، الموالية لأنقرة.

هذه الحادثة دفعت الأتراك في 11 الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول) إلى تسريع خطتهم، المعدّة مسبقاً، بدفع هيئة تحرير الشام إلى التمدّد إلى مناطق غصن الزيتون ودرع الفرات، متحالفين مع الحمزات ومدعومين من فرقة السلطان مراد "العمشات"، وهيئة "ثائرون للتحرير"، للضغط على الجبهة الشامية والفيلق الثالث، وتقليص طموحاتها من جهة، والضغط على المعارضة المحسوبة على أنقرة للاستسلام وقبول التفاوض مع النظام. ومن جهة ثانية، أرادت تركيا أن تصل الهيئة إلى الحدود مع تنظيم "قسد"، لاستخدامها ورقة لعقد البازار المقبل مع النظام. اصطدمت الخطة بالرفض الأميركي الصارم لتمدّد الهيئة قرب الحدود مع "قسد"، الذي أُوقِف في كفر جنة، على تخوم إعزاز، معقل الفيلق الثالث، باتفاق أعلن انسحاب جماعة الجولاني. لكن ما حصل، أن عفرين وكفر جنة سلّمتا للحمزات والعمشات وهيئة "ثائرون للتحرير"، بدلاً من الفيلق الثالث، وكلها فصائل تركمانية موالية لأنقرة ومتحالفة مع هيئة تحرير الشام، وبقيت المكاتب الأمنية للهيئة في المنطقة، وتمارس الاعتقال. تلاه اجتماع لضباط أتراك مع قادة الفصائل في غازي عنتاب في 18 الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول) وآخر في أطمة لضباط أتراك مع قادة هيئة تحرير الشام وأحرار الشام جناح حسن صوفان. صدر عنه بيان يقول بتشكيل "هيئة استشارية" من كل الفصائل، ولجنة لـ"ردّ الحقوق"، وتسليم المعابر لـ"فريق اقتصادي" تختاره الهيئة الاستشارية، وإفراغ السجون، وقيادة موحدة للجيش الوطني وإبعاد العسكر عن الحياة المدنية، وما إلى ذلك...

تدعم واشنطن التدخل الروسي في سورية، ولا تقوم بخطواتٍ لإسقاط النظام، بل لإضعافه وإرباك الروس والأتراك

ما حصل على أرض الواقع، نجاح الأتراك في تقليص مطامح الفيلق الثالث والجبهة الشامية بالهيمنة على الفصائل، وحلّ الغرف التي أنشأوها لهذا الغرض، وقطع الطريق على أي تواصل مع أطراف خارجية من دون علم أنقرة وموافقتها، وكفّ يد المجلس الإسلامي السوري الذي وقف ضد الحمزات والعمشات. لكنهم فشلوا في تهدئة التوتر في المنطقة، حيث ما زال هناك اقتتال، وخلافات داخل "أحرار الشام"، حيث عُزل قائدها المقرّب من هيئة تحرير الشام، وفلتان أمني وحالات خطف واغتصاب جديدة وسيارات بلا أرقام...، فيما يصعّد الناشطون تهديداتهم، للأتراك والفصائل، بانتفاضة جديدة وعصيان مدني، ودعم الفيلق الثالث والجبهة الإسلامية، مطالبين بتشكيل محكمة علنية لقتلة أبو غنوم، لا قصر التحقيق على المدعو أبو سلطان، المسؤول الأمني في الحمزات، وخروج فلول الهيئة، وإلغاء أمنيات الفصائل وسجونها، وتفعيل القضاء والشرطة المدنية.

لم تتغيّر آلية إدارة أنقرة للفصائل، حتى بعد اجتماع غازي عنتاب، وهي تقوم على تقسيم الجيش الوطني إلى ثلاثة فيالق: الأول من الضباط السابقين، والثاني فرقة السلطان مراد "العمشات" وبقية الطيف التركماني الأكثر ولاءً لها، والثالث الجبهة الشامية. كلها فصائل تدين بالولاء لتركيا، وتعمل على تحقيق مصالحها الخاصة، وتريدها أنقرة أن تبقى متصارعة على النفوذ وحصص المعابر وغيرها، حتى يسهل تطويعها لتنفيذ التوافقات التي تجري مع روسيا ضمن مسارَي أستانة وسوتشي منذ 2016. لكن الاستدارة التركية صوب دمشق كانت من أجل طمأنة الداخل التركي إلى أنه يبحث مع الروس إمكانية المصالحة بين النظام والمعارضة، وحل مشكلة اللاجئين السوريين في تركيا، والمتهمين من المعارضة التركية بأنهم سبب الأزمة الاقتصادية التركية؛ وذلك بعد أن أخفق الرئيس التركي أردوغان في تنفيذ وعده وتهديده بالهجوم على تل رفعت ومنبج، وجعلها منطقة آمنة لعودة مليون لاجئ سوري من تركيا.

ليس أدلّ على تراجع الدور التركي في سورية من توجّهه إلى تعويم نظام الأسد، في وقتٍ تتراجع فيه قوة داعمي النظام

هزّت هذه الاستدارة ولاء الأطراف السورية المعارضة المدعومة من تركيا، ودفعت أنقرة إلى الاعتماد على هيئة تحرير الشام التي تتمتع باستقلالية أكبر من بقية الفصائل، وهناك تواصل مستمرّ بينها وبين الأتراك، ولدى أنقرة وسائل ضغط على الهيئة، منها المعابر وضخ المحروقات، ويبدو أن افتتاح معبر أبو الزندين لتسهيل حركة البضائع والسكّان من مناطق النظام وإليها جاء نتيجة للمباحثات مع الهيئة، وهو هدية للنظام، الذي بدوره يخترق الهيئة مخابراتياً إلى درجة كبيرة.

كان الموقف الأميركي ضدّ وصول الهيئة إلى الحدود مع "قسد"، لكنه ليس تماماً ضدّ المخططات التركية لتركيع الفصائل المتمرّدة. لذلك، لم تعترض واشنطن على بقاء المكاتب الأمنية لهيئة تحرير الشام في عفرين وغصن الزيتون، فالسياسة الأميركية تمسك بالملف السوري من زاوية السيطرة على شرق الفرات ودعم "قسد"، وهذه عقدة للروس والأتراك وللنظام أيضاً. لكن في الوقت نفسه، تدعم واشنطن التدخل الروسي في سورية، ولا تقوم بخطواتٍ لإسقاط النظام، بل لإضعافه وإرباك الروس والأتراك. فيما دفعت قلة حظوظ فوز حزب العدالة والتنمية بالانتخابات التشريعية والرئاسية منتصف العام المقبل، الرئيس أردوغان إلى العبث بورقة قوته في سورية، وهو ولاء المعارضة والفصائل؛ بل راح نظام الأسد يستغل الموقف التركي الجديد، في زيادة تأليب مناطق الشمال على أنقرة، بقصفه المخيمات الحدودية، والتذكير بأنه قادر على إرباك حكومة أردوغان في أي وقتٍ قبل الانتخابات. وليس أدلّ على تراجع الدور التركي في سورية من توجّهه إلى تعويم نظام الأسد، في وقتٍ تتراجع فيه قوة داعمي النظام، حيث يتلقى بوتين ضربات قاسية في أوكرانيا، ويئنّ النظام في إيران تحت وقع الاحتجاجات الشعبية المستمرّة.