عندما تهدّد إسرائيل بملاحقة قادة حماس في تركيا
لأن تعثّر إسرائيل في حربها على قطاع غزّة يُعمق مأزقها الاستراتيجي الذي تواجهه منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول، ويزيد يأس رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو الذي يبحث عن نصر في الحرب على حركة حماس، عبر محاولة استهداف قادتها في الخارج، فإن المخاطر المحيطة بالعلاقات التركية الإسرائيلية منذ اندلاع الحرب ازدادت على نحو كبير، منذ أعلن رئيس جهاز الشاباك (الأمن الداخلي)، رونين بار، عن تلقيه توجيهات من الحكومة بملاحقة قادة حركة حماس في الخارج بما في ذلك تركيا. وقد أعلنت السلطات التركية، أخيرا، إلقاء القبض على شبكة تجسّس تعمل لصالح جهاز الموساد الإسرائيلي كانت تُخطط لمراقبة أجانب مقيمين في تركيا واغتيالهم. بعد اندلاع الحرب في قطاع غزّة، تعرّضت العلاقات الجديدة بين تركيا وإسرائيل لانتكاسة كبيرة، رغم أنها لم تتفاقم بعد إلى مستوى أزمة دبلوماسية كبيرة على غرار أزمتي 2010 و2018. ويرجع ذلك إلى أن الطرفين يسعيان إلى الحفاظ على خيط رفيع يُساعدهما في عبور الأزمة الراهنة بمجرّد انتهاء الحرب. مع ذلك، ينقلها تصاعد التوترات على خلفية التهديد الإسرائيلي بملاحقة قادة "حماس" إلى مستوياتٍ أكثر خطورة.
وعلى الرغم من أن الرئيس رجب طيب أردوغان لم يُحدد طبيعة الثمن الذي توعد إسرائيل بدفعه في حال أقدمت على تنفيذ تهديداتها، إلّا أن تحذيره بأن هذا الثمن لن يكون بمقدورها التعافي منه، يُشير إلى أن الردّ التركي لا يُمكن تصوّره، وأن الضرر الذي سيلحق بالعلاقات التركية الإسرائيلية قد يكون مدمّراً لها. فهل إسرائيل مستعدة فعلاً لتحمل هذا الثمن من أجل إثبات أنها قادرة على ملاحقة قادة "حماس" أينما كانوا بمعزل عن العواقب؟ من منظور المكاسب والخسائر المتصوّرة، ما تتطلع إليه تل أبيب من استهداف قادة "حماس" في تركيا لا يكاد يُذكر مقارنة بالعواقب الهائلة المتصوّرة وغير المتصوّرة على علاقاتها ومصالحها مع أنقرة. وحتى لو تجنّبنا الخوض في نقاش ردود الفعل التركية التي لا يُمكن تصوّرها، فإن الخيارات الأخرى التي يُمكن تصوّرها، على غرار قطع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والتجارية مع إسرائيل، ستكون أضرارها عليها أكبر بكثير من أي مكاسب متصوّرة من استهداف قادة "حماس". علاوة على أهمية الحفاظ على العلاقات الدبلوماسية مع دولة بحجم تركيا التي أصبحت في الوقت الراهن قوة أساسية فاعلة في الجغرافيا السياسية الشرق أوسطية، وفي منطقة آسيا الوسطى وجنوب القوقاز التي تحظى بأهمية كبيرة في الطموحات الخارجية الإسرائيلية، فإن العلاقات الاقتصادية والتجارية معها لا تقلّ أهمية.
تواجه إسرائيل صعوبة كبيرة في نشاطها التجسّسي على الأراضي التركية بفعل القدرة الاستخباراتية والأمنية العالية لتركيا
يُقدّر حجم واردات إسرائيل من تركيا سنوياً بنحو سبعة مليارات دولار، ويقترب حجم التبادل التجاري من تجاوز عتبة عشرة مليارات دولار. كما أن مشتريات النفط الإسرائيلية التي تعبر تركيا تتجاوز 60% من واردات النفط الإسرائيلية. علاوة على ذلك، يعدّ تعاون إسرائيل مع تركيا لتصدير احتياطاتها من الغاز إلى السوق الأوروبية حيوياً في استراتيجية الطاقة الإسرائيلية. وبالتالي، ستكون للمخاطرة بتدمير العلاقات مع تركيا عواقب كبيرة على إسرائيل في المجالات الجيوسياسية والجيو اقتصادية والتجارية. وإذا كان الافتراض أن إسرائيل تُدرك حجم هذه العواقب، لماذا تُهدّد باستهداف قادة "حماس" على الأراضي التركية؟ من الواضح أن الموقف التركي الداعم الحركة بعد اندلاع الحرب، يدفع إسرائيل إلى تبنّي نهج متشدّد إزاء علاقة تركيا بـ"حماس". مع ذلك، ليس النشاط التجسّسي الإسرائيلي في تركيا جديداً، واعتقال السلطات التركية شبكة التجسس الجديدة يندرج في إطار المواجهة الاستخباراتية الطويلة بين البلدين. كما أن مكافحة تركيا النشاط التجسّسي الأجنبي على أراضيها لا يقتصر على إسرائيل فحسب. في العام الماضي، أوقفت السلطات شبكة تجسّس تعمل لصالح إيران، وكانت تخطّط لاستهداف سياح ورجل أعمال إسرائيلي. لذا، يُمكن النظر إلى المواجهة الاستخباراتية بين تركيا وإسرائيل أيضاً أنها جزء من جهد تركي أوسع لمنع تحوّل الأراضي التركية إلى ساحة لحرب الظل بين إسرائيل وإيران.
يكتسب وجود قادة "حماس" في تركيا بُعداً رمزياً مقارنة بما هو الحال عليه بالنسبة لوجودهم في دول أخرى
وبالنسبة لملفّ "حماس"، الذي يُضاف إلى قائمة التعقيدات الكبيرة التي تواجه العلاقات التركية الإسرائيلية، فإنه على الرغم من تهديد تل أبيب بملاحقة قادة الحركة، فإن الهامش المتاح لها للقيام بذلك محدود مقارنة بدول أخرى، إن من حيث القدرة الأمنية والاستخباراتية على تنفيذ عمليات اغتيال أو من حيث العواقب الكبيرة المترتبة عليها. فمن جانب، تواجه إسرائيل صعوبة كبيرة في نشاطها التجسّسي على الأراضي التركية بفعل القدرة الاستخباراتية والأمنية العالية لتركيا. ومن جانب آخر، تدفع المخاطر بإحداث ضرر هائل في العلاقة مع تركيا الإسرائيليين إلى أخذها بالاعتبار. لذلك، يندرج التلويح الإسرائيلي باستهداف قادة "حماس في تركيا، أولاً، في إطار رد الفعل على إشادة الرئيس أردوغان بحركة حماس منظمة تحرّر وطني، ويهدف إلى الضغط على أنقرة من أجل قطع علاقتها بحركة حماس، وإبعاد قادتها الموجودين على أراضيها إلى دول أخرى. لكنّ رضوخ تركيا لهذا الضغط غير وارد. وفي فترة ما قبل الحرب، اضطرّت إسرائيل إلى تجاهل مطلبها من تركيا بإبعاد قادة "حماس" من أجل إعادة تطبيع العلاقات معها.
يكتسب وجود قادة "حماس" في تركيا بُعداً رمزياً مقارنة بما هو الحال عليه بالنسبة لوجودهم في دول أخرى. صالح العاروري نائب رئيس المكتب السياسي لحماس، والذي اغتالته إسرائيل في لبنان (لم تتبنّ المسؤولية) كان له دور كبير في قيادة نشاط حركة حماس في الضفة الغربية وصلة الوصل بين الجناح العسكري لحركة حماس وحزب الله وإيران. لذلك، كان هدفاً مهماً بالنسبة للإسرائيليين. وعلى العكس من ذلك، يعمل القادة الحمساويون الذين يتردّدون على تركيا بين فينة وأخرى، أو يُقيمون فيها ويحملون جوازات سفرها، في الجناح السياسي للحركة. مع أنه لا يُمكن الجزم بما إذا كانت العواقب المتصوّرة على العلاقات التركية الإسرائيلية ستُشكّل رادعاً قوياً لتل أبيب لتجنّب تصعيد كبير مع أنقرة، إلّآ أن أولوية تركيا في التعامل مع ارتدادات حرب غزّة تتمثل في منع وصولها إلى أراضيها إن على مستوى الصراع الإسرائيلي مع "حماس" أو على مستوى حرب الظلّ بين إسرائيل وإيران.