عندما تتعامل إسرائيل مع الأسد كائناً سياسياً؟

19 يونيو 2022
+ الخط -

في أحيان كثيرة، تفاجئنا التقديرات الإسرائيلية، الرسمية والأكاديمية، بالنظر إلى بشّار الأسد كائناً سياسياً عاقلاً يفاضل بين الخيارات، ويختار أكثرها مناسبة لسورية وأمنها وقدرة على إخراجها من المآزق السياسية. ويدخل استهداف إسرائيل مطار دمشق الدولي، أخيرا، ضمن هذه الحسابات، وفق ما تسرّب عن المستويات السياسية والأمنية الإسرائيلية، التي قدّرت أن ذلك سيدفع الأسد إلى إعادة حساباته، وتقييمه التطورات المستجدّة في سياسة إسرائيل الأمنية التي تهدف إلى إعاقة عملية التمركز الإيراني في سورية. وليس خافياً أن مثل هذه التقديرات تتحدّث عن بشار الأسد الافتراضي وليس الواقعي، أي بشار الأسد لاعبا سياسيا، رئيس دولة طبيعيا، يوازن بين الخيارات، بمساعدة فريق استشاري خبير، وعلى هذا الأساس، يجري ترجيح الخيارات الأقل سوءاً، على اعتبار أن الخيارات في ظروف الأزمات كلها سيئة.

لكن، ما هي المؤشّرات التي اعتمدت عليها إسرائيل في بناء فرضيتها تلك؟ هل رصدت إسرائيل وجود نظام سياسي طبيعي في سورية يشتغل على أسس سياسية عصرية سليمة، ثم أين هي التفاعلات الحاصلة داخل هذا النظام، حتى يجري على أساسها قياس مدى عقلانيته واحتمال اتخاذه قرارات صائبة! وهل في سورية مجالٌ سياسيٌّ من شأنه فرض خياراته على النظام السياسي، وجعله يأخذ المصلحة العامة محدّداً أساسياً لسياساته وقراراته؟

على مدار عشر سنوات، كانت ممارسات بشار وسلوكه تحت مجهر مراكز الأبحاث والدراسات الدولية والإقليمية، حاولت اختبار سلوكه وفق مقاربات كثيرة، باعتباره كائناً سياسياً عقلانياً، لم تتوصل إلى نتائج، ليس لأنه عبقريٌّ وقادرٌ على التمويه على سياساته، بالأصل السياسة في عالمنا المعاصر مكشوفة وواضحة، ويجري الإعلان عنها في البرامج الانتخابية والخطط الحكومية والتوجّهات السياسية. ربما تنطوي التكتيكات على بعض الغموض، لكن الإستراتيجيات واضحة. خذ مثلاً إستراتيجية أميركا لإضعاف الصين مكشوفة ومشروحة، حتى بكلفها وميزانياتها وطرق تنفيذها. سبب العجز أن بشار الأسد رجل عصابات من الدرجة الثالثة خدمته ظروفٌ إقليمية ودولية.

هل في سورية مجالٌ سياسيٌّ من شأنه فرض خياراته على النظام السياسي، وجعله يأخذ المصلحة العامة محدّداً أساسياً لسياساته وقراراته؟

حتى العرب الذين دعوا إلى عودته إلى جامعة الدول العربية لم يكن سبب ذلك اعتقادهم أنه شخص عقلاني دافعهم لعودته، إنما كلٌّ لحساباتٍ سياسيةٍ خاصة به، فهم يعرفون أكثر من غيرهم أنه يفكّر بطريقة رؤساء العصابات والحسابات السياسية لديه مختلفة عن أي قائد أو رئيس، وهم يعرفون أن ما طفح به إعلامه الرسمي من مصطلحاتٍ عن "العربان" و"شاربي بول البعير" لم تكن ناتجة عن لحظة نزق، بقدر ما هي تعبير عن تفكير نمطي لدى منظومة الأسد عن العرب وقياداتهم.

غالباً ما تستخدم مراكز الأبحاث، وحتى المستشارون لدى الحكام والمسؤولين، مقارباتٍ سياسيةً نظريةً مستقاة من العلوم الاجتماعية والنظريات السياسية لتفسير سلوك الحكام وسياساتهم، لكن ثمّة مشكلة ينطوي عليها استخدام هذه الأدوات، وهي افتراضها العقلانية لدى المدروسين، وتصوّرها أن ممارسات هؤلاء ناتجةٌ عن نظام متكامل يقوم على أساس مدخلات ومخرجات واقعية، والواقع أنه في مثل حالة الأسد ومنظومته، مثل هذه الأدوات التحليلية ليست سوى وسيلة للابتعاد عن التفاصيل الواقعية، والوصول إلى نتائج نمطية يمكن استخدامها في فهم أي نظام افتراضي في عالم اليوم.

الغريب أن إسرائيل، التي شنّت أكثر من ألف غارة على سورية، وسبق لها أن ضربت بنىً تحتية عديدة، من ضمنها ميناء اللاذقية، تتوقع أن تؤدي ضربة مطار دمشق إلى تغيير قناعات الأسد وطلبه من إيران وقف إرسال الأسلحة إلى حزب الله عن طريق المطار، لأن ذلك قد يؤثر على الاقتصاد السوري، او قد يضرّ بسمعة سورية بسبب ضرب رموزها المهمة؟ وكأن الأسد فعل شيئا مثلاً للحفاظ على رموز سورية، من عملتها إلى علمها إلى شعبها الذي عبثت إيران بتركيبته السكّانية والمذهبية، بمساعدة كبيرة من رموزه الأمنية والعسكرية!

تدرك إسرائيل أن الأسد لم يكن يوماً في سلوكه يصدر عن سياسي عقلاني

ثمّة أدوات إذا جرى استخدامها بغير مكانها أو محلها فإنها لا تنتج أي قيمة، ومنذ بواكير القرن الماضي، كشف علم النفس الجديد أن الإنسان لم يكن مخلوقًا عقلانيًا تمامًا، وأن أفعاله السياسية لم تكن موجّهة بالكامل بالعقل والمصلحة الذاتية. وعلى ضوء هذه النتائج، سعت مدارس سياسية عديدة إلى إدخال واقعية جديدة في الدراسات السياسية. وإسرائيل تدرك أن الأسد في سلوكه لم يكن يوماً يصدر عن سياسي عقلاني، وما يجود به إعلامها ومراكزها البحثية من نمط هذه الترّهات، ليس سوى مجاراة للمستويين، العسكري والأمني، الإسرائيليين، في فشل إستراتيجياتهما في منع التمدّد الإيراني في سورية، في تواطؤ مكشوفٍ لطمأنة الرأي العام الإسرائيلي بأن هذه المستويات تخطّط وتنفذ، وسيكون لعملها ثمار مستقبلية، ويدخل في هذا الإطار الافتراض بأن الأسد سينحو صوب التفكير العقلاني، في ظل سياسة الردع التي تستخدمها إسرائيل تجاهه، ولا ينسى الإسرائيليون، بعد كل ضربة، التأكيد أنهم لا يهدفون إلى إسقاط النظام!

مؤكّد أن بشار الأسد عندما يقرأ، إن كان يقرأ، مثل هذه التقديرات، فإنه يحيلها إلى المؤامرة الكونية، من باب اللعب عليه بهدف تحويله إلى كائن سياسي عقلاني، يجري حساباته بمنطق وعقلانية، وهو إن فعل ذلك سينتحر بعد ساعة. على مدار أكثر من عقد، وهذا ليس زمنا قصير، ثبت أن كل سياسة لا تهدف إلى إسقاط الأسد يستطيع التكيف معها، ويحسبها ضمن الخسائر المحتملة، ماذا أكثر من دمار سورية؟

5E9985E5-435D-4BA4-BDDE-77DB47580149
غازي دحمان

مواليد 1965 درعا. كتب في عدة صحف عربية. نشر دراسات في مجلة شؤون عربية، وله كتابان: القدس في القرارات الدولية، و"العلاقات العربية – الإفريقية".