علّل: السيسي
أحياناً، يصبح الحصول على "مسؤول" غير مثير للسخرية أو الاشمئزاز منجزاً، في ذاته. لو توفر تطبيق إلكتروني لرصد العلاقة الشرطية بين "نوعية" الأخبار السياسية وأسباب تداولها وانتشارها ومشاركتها، لوجدنا أنّ أهم أسباب استمرار الاهتمام بأخبار الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي هو السخرية من تصريحاته الكوميدية، ولغته الركيكة، وأرقامه المدهشة، وتعبيرات وجهه "اليونسشلبية" أو حجم الاستياء من انتهاكه القانون، والتعامل مع معارضيه، العاديين، (غير الإرهابيين)، بكلّ هذا الكم من العنف والصلف والغلّ، السجن في زنازين غير آدمية، إهانة أهل السجين في أثناء الزيارة أو حرمانهم منها، اختراع نوع جديد من الحبس الاحتياطي لا وجود له في قوانين الدنيا بأسرها، تجاهل الرأي العام، وأسئلته حول ذلك كله، والتصريح الدائم بأنّه ليس لدينا معتقلون، وليست لدينا تجاوزات، وليست لدينا جرائم، والإنكار على طول الخط بمنتهى الهدوء، إلّا في حالة واحدة، إذا كان الإنكار لن يوفر مادة للسخرية أو الاشمئزاز. هنا يعترف الرئيس، وينحاز إلى القيمتين اللتين تحملانه على أجنحة الذيوع والانتشار طلباً للمزيد، مثلاً: الرئيس يبني قصوراً، كان من الممكن أن ينفي، كما يفعل دائماً، أو يتجاهل، ولن يجرؤ أحدٌ على سؤاله، إلّا أنّه بمنتهى الوضوح قال: "أيوه أنا بابني قصور، وهابني قصور، إنتوا هتخوفوني ولا إيه؟".
نجح الرئيس السيسي، في خطاباته واحتفالاته، ربما أكثر من "إخوان محمود حسين" في إثارة مشاعر السخرية والاشمئزاز بما يضمن استمرار الاهتمام به، وحضوره الدائم في "التريند" ولو أنه نجح في ملف واحد من الملفات الحيوية، والضاغطة، والملحّة، مثل لقمة العيش، التعليم، الصحة، الأسعار… إلخ، نصف نجاحه في إثارة الضحك لصار حدّوتة مصرية، يحكيها المصريون على المصاطب، ويتغنّى بها الشعراء والمطربون "بجد" وليس بتعليمات من حضرة الضابط عبر جهاز "سامسونغ".
دعك من رواية الثورة، وتعالَ نتكلم من داخل منطق تأييد السيسي نفسه. جاء الرئيس السيسي لإنقاذ مصر من حرب أهلية، ولولاه لتحوّلت مصر إلى سورية أو العراق، ووعد الرئيس بإحداث تغيير حقيقي في حياة المواطن المصري في ظرف سنتين (حواره مع لميس الحديدي وإبراهيم عيسى). كان السيسي وقتها قد تجاوز الستين، وشغل من المناصب ما يؤهله لمعرفة الدولة المصرية جيداً؛ مدير المخابرات الحربية، وعضو المجلس العسكري، ووزير الدفاع، ثم رئيسا تحت التمرين، فترة عدلي منصور، ثم رئيسا للجمهورية. ووجد السيسي من الدعم والتأييد، ما لم يجده رئيسٌ قبله؛ شعبية جارفة، ودعما مجانيا من قطاعات كبيرة من المصريين، ودعما إقليميا "خليجيا" بالمليارات، الأجهزة معه، الجيش والشرطة في يده، الإعلام تحت أمره، ناهيك عن خصوم مثيرين للسخرية والاشمئزاز في آن، بخطابهم، ومزايداتهم، وقنواتهم "التعبانة"، وأوهامهم عن إمكانية إسقاط النظام، في أسبوعين. حتى خصومه كانوا جزءاً من رصيده، يُنفق منه كيف يشاء.
نجح السيسي، بتكلفةٍ عالية، في ملف الإرهاب، واستعاد، نسبياً، الأمن، بعد غيابه سنوات ما بعد الثورة، وعام حكم الإخوان تحديداً (دعك من رواية الإخوان بالتغييب المتعمّد من أجهزة الأمن)، وأحدث فارقاً نوعياً في ملفات الطرق والجسور والعشوائيات، ثم ماذا بعد؟ يظهر الرئيس أسبوعياً، ظهوراً معدّاً أو عفوياً، طبعاً، ليتحدّث إلى المصريين، وخلاصة خطابات الرئيس، في العامين الأخيرين: الثورة هي السبب، المواطن هو السبب، الشعب أداؤه ضعيف، الدولة معذورة، وليس معها، وليس عندها، وليس لديها، وندعو الله، وندعو الطيبين ليدعوا معنا، ولنا، الله، وكله على الله، وربنا يسهل. هل في ذلك أيّ افتئات على خطابات فخامة الرئيس؟ هل هناك أي منجزٍ حقيقي في أي ملفٍ ضاغطٍ على المواطنين يمكن أن نعتبره سبباً وجيهاً لاستمرار السيسي ونظامه؟ هل هناك ما يقدّمه الرئيس ويخفى على الحاقدين عليه وعلى مصر من أمثالنا؟ لماذا يدعم أو يؤيد أيّ مسؤول داخل الدولة وجود السيسي، أو استمراره؟ وهل ما زالت الدولة المصرية تحتاج السيسي كي ينقذها، أم أنّها تحتاج من ينقذها منه؟