على ورق صيني

02 نوفمبر 2022
+ الخط -

ما بين يوم وليلة، أصبح فلسطينيون ومحبون لفلسطين يردّدون كلمات نشيد مسنّةٍ فلسطينيةٍ غيّبها التهجير والاغتراب عقودا، وصدّرتها كلمات الحنين على مواقع التواصل الاجتماعي، لأنه وقع على الجرح كما يقولون، أي في وقته المناسب، وحيث تشتدّ الهجمة الصهيونية في الضفة الغربية، وتتزايد المقاومة الشعبية، وينبهر العالم أجمع ببطولات الشباب الفلسطينيين، المشتبكين وجها لوجه مع قوات الاحتلال الصهيوني.

من أحد مخيمات اللجوء في الأردن (مخيم الزرقاء)، خرج صوت الثمانينية الحاجة حليمة (مواليد 1938) لكي تنشد أبياتا من التراث الفلسطيني من مقام دلعونة، ولكنها غيّرت المقام، ليتناسب مع قدراتها الصوتية والطابع والمقام الحزين الذي يتناسب مع الظروف التي تعيشها، وحيث استقر بها المقام منذ 1961 في هذا المخيم، وتركت موطنها الأصلي في فلسطين، وحيث تنحدر من قرية بيت اكسا قضاء مدينة القدس.

اللافت والمفرح أن روّاد مواقع التواصل الاجتماعي قد نبشوا عن أصل نشيد المسنّة الفلسطينية التي التقطها أحد الإعلاميين، أو ربما أحد هواة التصوير من خلال التقنيات المتوفرة في الهواتف، وأصبحت صوتا ووجها محبّبا ومحرّكا ومؤجّجا للمشاعر. ويعدّ هذا الاهتمام بالنبش في التراث الفلسطيني خطوة مهمةً وضرورية على طريق تثوير القصيدة العربية عامة، والفلسطينية خصوصا، والنبش والتمسّك بالأناشيد التراثية يلعب دورا مهما في الحفاظ على انتماء الشعب الفلسطيني لتاريخه، ولكن المأمول والمرجوّ من هذا الجيل عدم السكون إلى الماضي، بل أن يكون اختراق هذا التراث الاصيل المشبع بحب الوطن والذود عنه من آبائنا وأجدادنا وسيلةً لاستشراف مستقبل القضية الفلسطينية.

وقد تبيّن من النبش في التراث الفلسطيني المرتبط بالثورة على مر التاريخ أن البيت الأول الذي أنشدته الحاجة حليمة الكسواني (أم العبد) أنشده أهل فلسطين، بعد هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى، وقد كانت فلسطين تخضع للحكم العثماني. وممن أنشدوا هذا النشيد أبو ظريف الحرازين، وهو من أهل حي الشجاعية، أحد أشهر أحياء غزة القديمة. ويعرف الحرازين بأنه من أشهر شعراء الثورة ومنشديها، كما أنه من أشهر من أدّى الدبكة الشعبية الفلسطينية، وكانت له فرقة مخصّصة للإنشاد والدبكة، وقد ارتبط بعلاقة وثيقة بالثورة الفلسطينية في 1936، وعرف بأنه كان يحرص مع فرقته على أداء أناشيده الثورية والشعبية في المناسبات الشعبية والدينية، كالمنطار في غزّة وروبين في يافا وموسم النبي موسى والنبي صالح ووادي النمل، وما زال أحفاده يؤدّون الإنشاد والغناء في الحفلات الشعبية الفلسطينية في غزة.

ومع هزيمة الجيش العثماني، أنشد أبو ظريف "يا ولاد العرب لِمّوا (شدّوا) بعظكم رحلت تركيا وما ودعتكم"، وهذا البيت، وإن كان دعوة إلى الاتحاد والتكاتف في وجه المحتل البريطاني، إلا أنه يعدّ كشفا جليا لأبعاد الهيمنة التركية، ولأسباب مضللة، على فلسطين وأجزاء واسعة من البلاد العربية زمنا غير قليل.

أما بيت الشعر الثاني الذي أنشدته الحاجّة أم العبد فيقول "على ورق صيني لأكتب بالحبر على ورق صيني، على اللّي جرالك يا فلسطيني، على ورق صيني". ويُنسب هذا البيت إلى ما جرى من أحداث في أثناء ثورة العام 1936ضد الاحتلال البريطاني، وقد ذكر في النشيد الورق الصيني بالتحديد لأنه من أجود أنواع الورق، وحيث دخل بلاد المسلمين بعد "معركة النهر" عام 751 م بقيادة أبي مسلم الخراساني، وقد أسر المسلمون صنّاع ورق صينيين مهرة. كما أن التأكيد على ضرورة كتابة أحداث فلسطين على هذا الورق الجيد الذي لا تُمحى الكتابة عنه يدلّ على عظيم ما مرّ في فلسطين من أحداث، نرجو أن توثقها الجدّة حليمة من خلال حسابها على موقع "تيك توك"، وألا يُساء استغلال ثروتها الإنشادية التراثية لأسبابٍ ربحيةٍ لا تليق ببداياتها التي ألهبت حماسنا في هذا التوقيت بالذات.

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.