على هذه الأرض نحن أو الصهاينة
كانت بعض الأنظمة العربية الأليفة تسخر من القول إن الصراع مع الصهاينة هو صراع وجود لا حدود، بل وترى في ذلك شعارات رنّانة، وتهاجم مردّديها وتتآمر عليهم، غير أن هذه الأنظمة نفسها تستمع إلى خطاب "التمانع" ذاته من قيادات الاحتلال الصهيوني ولا تحرّك ساكنًا.
كم مرّة سمعت مجرمًا صهيونيًا من قيادات الاحتلال يردّد عبارة "إما نحن أو هم"، في تعبير عن العقيدة الاستئصالية التي ترفض الوجود الفلسطيني على أرض فلسطين؟. قالها وزير الحرب والمتحدّث باسم الجيش، وقالها نتنياهو وآخرون، قبل العدوان على غزّة وبعده، ففي يناير/ كانون الثاني مطلع هذا العام، أعلنها وزير الأمن الداخلي الصهيوني المتطرف، إيتمار بن غفير، خرّيج مدرسة الحاخام مائير كاهانا، مؤسس حركة كاخ التي جرى تصنيفها "إرهابية وفاشية"، والتي تعتبر العرب في فلسطين أعداء (أغيار) يجب إخراجهم بالعنف، وجلب جميع يهود العالم ليحلّوا محلّهم.
كما أكّدها خطاب نتنياهو وهو يشنّ هجومًا إرهابيًا على الجمعية العامة للأمم المتحدّة، بعد تبنّيها قرارا يطالب محكمة العدل الدولية بالنظر في مسألة احتلال إسرائيل الأراضي الفلسطينية، وهو القرار الذي وصفه الصهيوني الوقح بأنه "حقير"، قائلًا بالحرف الواحد "اليهود ليسوا غزاة لأرضهم، عاصمتنا المنتصرة القدس ليست محتلة، قرارات الأمم المتحدة لا تلزم الحكومة الإسرائيلية في زمانها".
ماذا حدث بعد هذه التصريحات الإجرامية منذ مطلع هذا العام؟. لم يردّ أحدٌ من العرب باتخاذ مواقف رادعة لهذا التغوّل على حقائق التاريخ والجغرافيا، بل وجدنا العكس، حيث هرولت الرياض، بالسرعة القصوى، على طريق التطبيع، ورأينا موقفًا عربيًا في أغلبيته يكاد يعلن أن التطبيع هو قضية العرب المركزية، فلماذا ونحن في لحظة الإبادة الحالية لا يُضاعف الصهاينة من وحشيّتهم وهم ينفذون جريمة تطهير عرقي مكتملة الأركان ضد الشعب الفلسطيني في غزّة؟
لماذا لا يخرُج وزير صهيوني بخطابٍ مجنونٍ عن التفكير في إلقاء قنبلة نووية على غزّة حلًا من الحلول المقترحة لاقتلاع المقاومة، المبدأ والمشروع، من كل فلسطين؟ ولماذا لا يتحدّث آخر صراحة بأن الشعب الفلسطيني في غزّة لا يستحق البقاء أو الحياة؟
الصهاينة يذهبون بالتصريحات الصادرة عنهم إلى ما وراء النازية والفاشية والمكارثية معًا، بالنظر إلى أن ردّات الفعل العربية تأتي على هذا المستوى من الدونية، إذ تشكو وزيرًا صهيونيًا إلى الحكومة الصهيونية وتطالبها باتخاذ موقفٍ معه، وكأنّ هذا المعتوه بتصريحاته خارج السياق الإسرائيلي العام.
في التعليق على تصريحات وزير التراث الصهيوني بشأن استخدام القنبلة النووية تقرأ مضمونًا واحدًا في بيانات الشجب العربية، التي تدّعي الدهشة والصدمة، فتقول الخارجية المصرية نصًا إن "مطالبة وزير إسرائيلي بإلقاء قنبلة نووية على قطاع غزّة دليلٌ على مدى الانحراف والتطرّف الذي لحق بعدد من صنّاع القرار فى الحكومة الإسرائيلية"، وهو المضمون ذاته الذي تجده في بيان الخارجية السعودية التي ترى أنّ هذه التصريحات "تُظهر تغلغل التطرّف والوحشية لدى أعضاء في الحكومة الإسرائيلية". وكأن الأصل في الحكومة الإسرائيلية أنها تضم مجموعة من الحملان الوديعة الطيبة، والوزراء المتحضّرين الأخيار، وأنّ ذلك الوزير الذي لوّح بالقنبلة النووية هو الشاذّ عن السياق، أو العنصر الاستثنائي في المنظومة، وكأن التطرّف والوحشية لم يكونا موجودين، ثم أتيا فجأًة من "بعض أعضاء الحكومة" فقط، وليسا عقيدة راسخة منذ تأسس هذا الكيان السرطاني.
حسنًا، ها هو أحد الإسرائيليين المصنّف "معتدلًا" يردّ على الرسميين العرب، فيقول "المعتدل" رئيس الوزراء السابق على نتنياهو مباشرة، وقائد تيّار المعارضة حاليًا، يائير لبيد، إنه "لا وجود لدولة فلسطينية إلا على كوكب المرّيخ وليس على الأرض، لأن الأرض هي هدية الله لليهود... ليس هناك استيطان... هذه ليست مستوطنات.. هذه أرضنا.. أرض الميعاد في التوراة".
هذا الخجل العربي الرسمي المشين بمواجهة الغطرسة الإسرائيلية، والذي يكاد ينطق بقبول عام بشرق أوسط إسرائيلي، تنفرد به تل أبيب، ومعها واشنطن، بإعادة رسم خريطة المنطقة جغرافيًا، هو أكثر فتكًا بالشعب الفلسطيني من القصف الإسرائيلي، بل لا تبالغ لو رأيتَ أنه جزءٌ من الخطة الأميركية الإسرائيلية التي تعتمد مبدأ "نحن نقصف ونتوغّل وأنت تندّد وتستنكر"، لكن من دون فعل حقيقي، وكأن النظام العربي قد ضجّ بالقضية، وضاق ذرعًا بشعبها، ويكاد يعتنق أمنية رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل، إسحاق رابين، التي عبّر عنها في العام 1992 بعد انتفاضة الحجارة الأولى"أتمنّى أن أستيقظ من نومي ذات يوم فأرى غزّة وقد ابتلعها البحر".
تعكف إسرائيل حاليا على محو غزّة من الوجود، أو تحويلها إلى مرعى لقطعان المستوطنين، بعد تفريغها من الوجود الفلسطيني، كما عبّر عن ذلك عضو الكنيست المجنون، رام بن باراك، الذي يطالب بتوزيع سكّان غزّة على دول العالم.