على هامش قضية جوديت غودريش
رفعت الممثلة الفرنسية جوديت غودريش في السادس من فبراير/ شباط الحالي قضية ضد السينمائي بينوا جاكو تتهمه فيها بالاغتصاب والعنف الجنسي. أثارت القضية اهتمام الرأي العام ولا تزال متابعاتها عناوين أولى في صحف وبرامج تلفزيونية عديدة. الاتهام الذي شمل اسماً فنياً معروفاً آخر، هو جاك دوالون، مهمٌّ من جهتين، أولاً لتعلّقه بحالة اغتصاب قاصر، فالعلاقة، التي تحدّثت عنها غودريش، بدأت حينما كانت في عمر الرابعة عشرة. وجه الأهمية الثاني ارتباط القضية بما يسمّى استغلال السلطة، وهو نوع من العلاقات التي يستغل فيها طرفٌ سطوته وتأثيره على الطرف الأضعف الذي هو في هذه الحالة غودريش، التي كانت مجرّد مراهقة باحثة عن الأضواء في ذاك الحين. يجعل ذلك الجرم، الذي يمكن تشبيهه باعتداء أستاذ على طالبته، مركباً.
هذه الحادثة ليست فريدة من نوعها، فقد سبقتها بوقت قليل اتهامات مماثلة لاسم معروف آخر في عالم السينما، جيرار ديبارديو. ويمكن أن تقرأ الحادثة أيضاً في سياق اتهامات التحرّش والاغتصاب، التي تمتلئ بها أوساط السياسة والإعلام وحتى الكنيسة في فرنسا. للتذكير، إبّان تصدّر قضية غودريش طفت إلى السطح قضية الناشط والطبيب النفسي جيرار ميلير، الذي اتهم بالاعتداء على أكثر من 50 من مريضاته.
تعيش أوروبا، منذ صيحة "مي تو"، موجة فضائح التحرّش والاغتصاب التي يعود كثير منها لعقدين أو ثلاثة عقود. هذه الفضائح، وإن نجحت في تشويه سمعة المتّهمين، إلا أنها قلّما تنجح في إثبات وقوع الجرم الذي مرّت فترة طويلة على وقوعه.
الممثلة، التي تبلغ الحادية والخمسين من عمرها، تحكي عن اعتداء وقع عليها إبّان تصوير فيلم قبل سبعة وثلاثين عاماً
مشكلة الحركة النسوية التي تبنّت مشروع "مي تو" وجعلته مشروعاً عالمياً بهدف نبيل، أن لا يكون من الممكن لأي مغتصبٍ أن ينجو بفعلته، أنها جعلت النساء، وهم النسبة الأكبر من الضحايا، على حقّ، وأوجبت تصديقهن والتعامل مع رواياتهن أنها صادقة. والمنطق هنا أنه لا يمكن للمجتمع أن يظلم الضحية مرّة بحدوث الاعتداء عليها ومرّة بعدم تصديق روايتها. يواجه هذا المنطق كثيراً من النقد اليوم لأنه ينحاز للنساء ويضع الرجال في دائرة التشويه، ما يجعلهم عرضة للتشهير أو الابتزاز. مثال ذلك الاتهامات التي تطاول رموزاً شهيرة بين كل فينة وأخرى، مستندة إلى روايات لفتيات يعترفن بأنهن قدِمن إلى منازل أو إلى غرف فنادق، لكنهن يُنكرن، في الوقت ذاته موافقتهن على ممارسة الجنس. وفق التعريف النسوي للاغتصاب، والذي يجرى تبنّيه اليوم على نطاق واسع، فإن بإمكان الضحية، وإن كانت بائعة هوى، أن تدّعي أنها تعرّضت لاعتداء، فيكفي أن تروي أنها قالت في لحظة ما لشريكها "توقّف"، لكنه لم يستمع إليها.
تدخل قضية غودريش في إطار القصص القديمة التي يتم التنقيب عنها وإعادتها إلى الواجهة، فالممثلة، التي تبلغ الحادية والخمسين من عمرها، تحكي عن اعتداء وقع عليها إبّان تصوير فيلم قبل سبعة وثلاثين عاماً.
الغريب أن قصة وجود علاقة بين الفتاة اليافعة والنجم السينمائي، الذي كان في حوالي الأربعين، كانت معروفة في الأوساط الفرنسية التي لم تر فيها غضاضة. على العكس، كان يُنظر إلى غودريش مثالاً يحتذى بين المراهقات الباحثات عن الصعود السريع عبر بناء علاقات مع أشخاص ذوي نفوذ. وتتحدّث غودريش، بعد كل هذه السنوات، عن ذلك، وتندم لكونها قدّمت قدوة سيئة لكثيرات. في سلسلة وثائقية عرضت قبل رفع هذه القضية، وحملت اسم "أيقونة السينما الفرنسية" حكت غودريش عن هذه العلاقة. بونوا جاكو أيضاً لم يجد حرجاً في التطرّق لما حصل، مع اكتفائه بقول إن كل شيء إنما جرى بالتراضي، ما ينفي عنه ادّعاء الاغتصاب أو العنف الجنسي. المفارقة أن الطبيب النفسي جيرار ميلير استخدم أيضاً التبرير ذاته لنفي جُرم الاعتداء.
الكتّاب والسينمائيون والمثقفون الفرنسيون لا يؤثرون فقط في داخل بلادهم، وإنما يمتد تأثيرهم إلى كل القارّات بسبب سطوة المنتوج الغربي وتأثيره
مثل كل القضايا، التي تتم استعادتها بعد عقود، برز سؤالٌ حول ذلك الصمت الطويل وذلك التصميم الحالي على تذكر التفاصيل، التي كان فيها كثير من السادية والعنف الجنسي والاستغلال. من جانب آخر، أثارت قضية غودريش تساؤلاتٍ حول حقوق الطفل ومعنى "التراضي" الذي كان يتحدّث عنه جاكو. وفق المنطق، الذي يتعامل مع غير البالغين على أنهم قصّر، ما حدث هو بشكل من الأشكال استغلالٌ للهشاشة النفسية وتوظيف للمكانة التي كان يحظى بها السينمائي الشهير، والذي هو في نهاية السبعينيات من عمره حالياً. وتقول غودريش إنها لم تكن معجبة بجاكو رجلاً، ولكنها وجدت نفسها مستسلمة له ولاستمتاعه بامتلاك عشيقة طفلة يعاملها بعنف وسادية، في حين لا تحاول هي أن توقف تلك العلاقة المسمومة التي استمرت لسنوات.
أفردت صحيفة لو باريزيان تغطية احتفائية بالأحداث اختارت لها عنوان "نهاية السينما الصامتة"، وهو عنوان أرادت أن تشير به إلى نهاية زمن استغلال الممثلين اليافعين في مجال صناعة الأفلام، وهو الأمر الذي يبدو أشبه بأمنيةٍ صعبة التحقيق. وقد امتدّ صدى هذه القضية خارج الحدود الفرنسية، فالكتّاب والسينمائيون والمثقفون الفرنسيون لا يؤثرون فقط في داخل بلادهم، وإنما يمتد تأثيرهم إلى كل القارّات بسبب سطوة المنتوج الغربي وتأثيره. لهذا، كان من الصادم لمتابعين كثيرين أن يكتشفوا أن فنانين كانوا ينظرون إليهم بإعجاب لم يكونوا سوى مهووسين بالجنس، بما فيه جنس الأطفال، في تحقيق لرواية نابوكوف الفانتازية "لوليتا"، التي كانت تحاول، بشكل غير أخلاقي، تبرير ولع رجلٍ بالغ بطفلة.
الألق والسطوة، اللذان تتمتع بهما الرموز الثقافية جعلا مشاركة أربعيني السكن مع مراهقة ممكناً. المحيط الاجتماعي، بما فيه عائلة الفتاة، لم يسع إلى منع ذلك حينها أو للاعتراض عليه.