على هامش الأزمة الإخوانية المصرية
تفاقمت، أخيرا، الخلافات والصراعات الداخلية في جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وهي خلافات ليست جديدة، عمرها سنوات، وتحديداً منذ الانقلاب العسكري الذي أطاح الرئيس الراحل محمد مرسي، عام 2013، وما تلا ذلك من إعلان جماعة الإخوان تنظيماً "إرهابياً" وزجّ عشرات الآلاف من قياداتها وأبنائها في المعتقلات والسجون، وقتل آلاف منهم، واضطرار آلاف آخرين إلى الهروب من مصر والعيش لاجئين سياسيين في بقاعٍ شتّى.
لقد تشرذمت الجماعة وتشظّت ما بين معتقلين ومطاردين يترّقبون في مصر ودعوات إلى الحفاظ على السلمية وأخرى تطالب بالمقاومة، وبين داخل تائه منهك وخارج تتعدّد ساحاته وحساباته وخلافاته، وما بين أجسام وتحالفات قيادية كل منها يزعم الشرعية التمثيلية. ترافق ذلك مع فشل محاولات رأب الصدع بين الأجنحة المتنافسة التي لم تستطع أن تتفق في ما بينها على قيادةٍ شرعيةٍ جامعة، تعمل على إعادة اللّحمة إلى صفِّ الجماعة وصياغة خريطة طريقٍ تروم تلمّس مخارج من المحنة الراهنة التي تمر فيها. وعوض أن تكون اللوائح التنظيمية الداخلية مرجعاً لحل الخلافات وتجديد الشرعيات، حوّلها المتنافسون إلى ذخيرةٍ حيَّةٍ يتناوشون بها. لم تجمع شعثهم وفاة الرئيس مرسي في المعتقل عام 2019، ابن الجماعة وأول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر الحديث، ولا أحكام الإعدامات المتتالية بحق قياداتهم وكوادرهم، ولا مناشدات المعتقلين وأهاليهم ومعاناتهم، ولا التحدّيات التي تواجهها بلادهم، ولا ينبغي توقع ذلك في القريب العاجل.
تعاني الجماعة من أزمة فكرية عميقة، انعكست في خلافاتٍ وتفسّخات تنظيمية
ما سبق توصيف موجز لأزمة الجماعة في السنوات الثماني الماضية، ولكنه توصيفٌ مخلٌّ أيضاً، ذلك أن جماعة الإخوان المسلمين، ليس في مصر فحسب، بل في المجمل، تعاني من أزمة فكرية عميقة، انعكست في خلافاتٍ وتفسّخات تنظيمية، كما في الأردن، وبدأت رياحها تصل إلى تونس أيضاً. أبعد من ذلك، نجد أن التنافس التنظيمي الداخلي كثيراً ما عبر أصحابه عن أنفسهم بمزاعم الوفاء "للمنهج الفكريِّ الإخواني الأصيل"، أو مزاعم السعي في تجديده وإحيائه. صحيحٌ أن الضغوط السياسية والأمنية، واستهداف الجماعة إقليمياً، كان لها الدور الأبرز في بروز التصدّعات داخل صفوفها، ولكن اختزال المشهد تفسيرياً في ذلك يدخل في باب انعدام الموضوعية، وهو الحكم ذاته الذي ينسحب على من ينكر دور الضغوط والملاحقة للجماعة في تصاعد ضوائقها.
لنضع معطى استهداف الجماعة في تأجيج تصدّعاتها جانباً هنا، فهو ثابت لا شك فيه إلا لمن اختار الانحياز الأعمى، ولنتحدّث بعض الشيء عن دور ديناميكيات إخوانية داخلية في صناعة أزماتها. هذا لا يعني إهمالاً للتحدّيات والجمود الفكري في الإطار الإخواني، إذ سبق أن كتبت عنها مرّات عدة عبر هذه الزاوية، وكتب كثيرون غيري في الموضوع نفسه.
إذا عدنا إلى الأزمة الراهنة في جماعة الإخوان المسلمين في مصر، والتي لا جديد فيها إلا خروجها إلى العلن، نجد أنفسنا أمام صراع تنظيمي داخلي على القيادة، وهي للمفارقة منافسة بين تيارين متقاربين فكرياً. هذه هي الحقيقة. قبل أيام، أصدر القائم بأعمال المرشد العام إبراهيم منير قراراً بإيقاف ستةٍ من قيادات الجماعة، في مقدمتهم الأمين العام السابق لها محمود حسين، وإحالتهم على التحقيق. كان ردُّ الستة، الذين يشغل خمسة منهم عضوية مجلس الشورى العام للجماعة، إعلانهم أن "مجلس الشورى قد انعقد بنصابٍ قانوني"، واتخذ قراراً، بغالبية أعضائه، يقضي بـ"إعفاء الأستاذ الفاضل إبراهيم منير من مهامه كنائب للمرشد العام للإخوان المسلمين وقائم بعمله". وقد نشر هذا الخبر على موقع الجماعة الرسمي على الإنترنت. جاء رد منير مباشراً وحاسماً باتهام هؤلاء بمحاولة السيطرة على الجماعة عبر وسائل الإعلام، وشدّد على أنه "يجب ألّا يكون أي شخص، مهما كان وزنه أو تاريخه، أكبر من الجماعة".
أدّى الجمود التنظيمي للإخوان المسلمين، والملاحقة الأمنية والاستهداف السياسي والإعلامي لها، إلى حدوث انشقاقاتٍ وتصدّعاتٍ داخل صفوفها، في غير ساحة
ترجع خلفيات التوتر الأخير إلى شهر أغسطس/ آب 2020، عندما اعتقلت السلطات المصرية محمود عزت، وكان يشغل منصب القائم بأعمال المرشد العام منذ 2013، إثر اعتقال محمد بديع. ولم تمض أيام حتى أعلنت الجماعة تعيين منير، المقيم في لندن، خلفاً لعزت. إلا أن القرار لم يرُق لتيار الرجل القوي في الجماعة محمود حسين، خصوصاً بعد قرار منير إلغاء موقع "الأمين العام للجماعة" الذي كان يشغله. ومنذ ذلك الحين، لم تنته الحزازات والصراعات بين تياري الطرفين، غير أن فصول التنافس والصراع داخل الجماعة سابقةٌ على ذلك بسنوات، وكانت قد اتخذت أشكالاً عدّة بين مكتبيْ إرشاد جديد وقديم عام 2015، ثمَّ بين مكتب عام ولجنة إدارية. ولكن، إذا عُدنا إلى الجذور، نجد أن جماعة الإخوان في مصر، على مدى عقود، وتحديداً منذ اغتيال مؤسسها ومرشدها العام الأول حسن البنا، عام 1949، دائماً ما عانت من حزازات تنظيمية، جرّاء عدم شفافية التصعيد القيادي فيها. ولكن ذلك كان يتم ضبطه بسبب قوة الجماعة وهياكلها، وبسبب الضغوط والاستهداف الأمني لها حتى ثورة عام 2011.
جاءت موجة الربيع العربي لتنكأ جرح "الشلليات" أو العصبويات في التنظيمات الإخوانية عموماً، إذ لم يعد من المقبول، حينها، التذرّع بالهواجس الأمنية، وخصوصاً أن الثورات جاءت تمرّداً على الأبويات السلطوية والقمعية العربية وغياب الشفافية والتداول السلمي للسلطة. حاولت الأطر القيادية الإخوانية، كالعادة، احتواء الأمر عبر وسائل شتى، إلا أن الوضع كان مختلفاً هذه المرّة، فالجيل الشاب لم تعد تقنعه مبرّرات الماضي. المفارقة أن المنطق الشللي أثبت أنه عصيٌّ على التغيير في الجماعة، فكان أن خرج كثيرون من شبابها ساخطين، أو أنهم جمّدوا عملهم في صفوفها، وهو ما أفقدها طاقةً حيويةً متدفقةً هي في أمسّ الحاجة إليها. تعقّدت الأزمة أكثر بعد الثورات المضادّة، بعد منتصف عام 2013، إذ أدّى الجمود التنظيمي للإخوان المسلمين، والملاحقة الأمنية والاستهداف السياسي والإعلامي لها، إلى حدوث انشقاقاتٍ وتصدّعاتٍ داخل صفوفها، في غير ساحة، كانت أبرزها مصر والأردن.
الخلاف في الصف القيادي الإخواني المصري، ومعضلات الإخوان المسلمين عموماً، لا يمكن اختزالها في صراعات أجنحةٍ وتنافسها تنظيمياً
ما سبق ليس محاولة لتبرير موقف أي تيار انشقاقي داخل "الإخوان"، أو تبنّياً لرأي طرفٍ على حساب آخر، أو حتى حصراً للخلاف بين شباب وشيوخ، أو صقور وحمائم، بقدر ما أنه محاولة للتنبيه إلى خطورة منطق (وروح) الشللية أو العصبوية داخل صفوف الجماعة. كثيرون بين كوادر "الإخوان" لا يخفون نقمتهم على أن فلاناً يتم تقديمه، ليس لأنه صاحب كفاءة، بل لأنه "مرضيٌّ عنه"، منافحٌ عن تيار وشخصيات معينة، مؤيد لقراراتها في "السرّاء والضرّاء"! وأنت إذا جلست مع بعض من أبناء الجماعة ستُفاجأ بحديثهم عن وجود "تنظيم عميق" داخلها، ومحاولات لتلميع أطراف على حساب آخرين، أو تذمّر من ازدواجية في تطبيق اللوائح التنظيمية التأديبية، إلى غير ذلك.
مرّة أخرى، الخلاف الراهن في الصف القيادي الإخواني المصري، ومعضلات الإخوان المسلمين عموماً، لا يمكن اختزالها في صراعات أجنحةٍ وتنافسها تنظيمياً، فضلاً عن حضور قويٍّ لمنطق الشللية وروح العصبويات، إلا أنه لا يمكن إنكار أيٍّ من ذلك أيضاً في تفسير الأزمات الإخوانية. يكفي اليوم أن تتابع كثيراً من النقاش الإخواني على هامش أزمة الإخوان المسلمين في مصر، لترى كم الاتهامات التي تُساق ضد محمود حسين وتياره بتمثيل "التنظيم العميق" داخل الجماعة. لا يعني ذلك تبنّياً للاتهام، ولكن محاولة لفهم بعض ما يجري، في سياق أوسع من الأزمة الفكرية البنيوية الإخوانية، ونقاش الأولويات والمستقبل. المفارقة الأكثر تعبيراً من كل ما سبق هي عندما تقرأ تعليقات لبعض الإخوان المسلمين ممن يعيبون على من يكتبون عن تفاصيل الأزمة التنظيمية الأخيرة، وتبنّيهم لموقف طرفٍ على حساب آخر، متّهمين إياهم بأنهم يساهمون في إذكاء النار ونشر الغسيل التنظيمي، وكأن الفتنة نائمةٌ لا تحتاج إلا من يوقظها لتنهال عليه اللعنات!