عفو رئاسي بالإيطالية الفصحى
استعادة إنسان واحد مظلوم من عتمة الزنزانة مناسبة مفرحة، وتستحق الاحتفال بكلّ تأكيد، حتى لو بقي عشرات الآلاف غيره في السجن، وبصرف النظر عن الأسباب والملابسات التي فرَضت على السجان أن يخفّف من حمولة سجونه.
كما ليس مطلوبًا من الغريق أن يختار ألوان (ومواصفات) طوق النجاة الذي يُلقى إليه، ولا أن يختار نوعية المنقذ ولونه ومستوى ثقافته. والأمر نفسه ينطبق على الذين ينتظرون على الشاطئ وكلّهم أمل في اكتمال محاولة الإنقاذ. وهذا ما جرى في مصر خلال اليومين الماضيين، مع قرار العفو عن الباحث المصري باتريك جورج، والمحامي محمد الباقر، وأربعة آخرين ليسوا من المشهورين، وبالتالي لم تسلّط عليهم أضواء الترّقب والانتظار.
أما وأنّ عملية الانتشال قد تمّت بنجاح، فذلك لا يعني، بأيّ وجه، كتابة قصائد المديح وعرائض الامتنان للخاطفين الذين احتجزوا الرهائن سنواتٍ للمقايضة عليهم. غير أنّه ليس ثمّة منطقٌ في بيئة تُخاصم العقل والعدل والاعتبارات الإنسانية والأخلاقية. لذا يصبح مطلوبًا منك، والحال كذلك، أن تصدّق أنّ النظام المصري أمضى ليلة كاملًا مرعوبًا ومختبئًا تحت جلده، بعد أن قرّر مجموعة من أنفار الحوار الوطني، لوّحوا بتعليق مشاركتهم في جلساته، بعد الحكم العسكري بسجن الباحث باتريك جورج زكي.
مطلوبٌ كذلك أن تسلّم بأنّ النظام ظلّ ساهرًا لا يغفل حتى أول شعاع شمس، لكي يعلن للعالم كلّه إطلاق سراح باتريك بموجب قرار عفو رئاسي، اتّقاء لغضب الملوّحين بالانسحاب، وحفاظًا على معبد الحوار الوطني من الهدم.
مطلوبٌ منك ألّا تصدّق أنّ رئيسة حكومة إيطاليا، التي منحت جنسيّتها للباحث المصري السجين، طلبت من السلطات المصرية الإفراج عنه فورًا، ثم عادت، بعد سويعات، لتعلن أنّ باتريك سيغادر السجن، ومنه إلى إيطاليا مع طلوع النهار. كما عليك أن تكذّب أذنيك وعينيك وتُنكر أثر التدخل الحاسم والسريع من البيت الأبيض في الأمر، وتقرّ بأنّ ثمّة قوة حقوقية جبّارة تخيف السلطات في مصر، وتدفعها للتراجع أمام عينها الحمراء، وتنفذ طلباتها فورًا.
لا واشنطن ولا روما لهما يد في قرار العفو الرئاسي عن باتريك جورج بعد ساعات من صدور حكم القضاء العسكري، غير القابل الاستئناف أو النقض، بسجنه ثلاث سنوات عقابًا له على نشر مقال في عام 2019، ندّد فيه بما اعتبره تمييزًا ضدّ الأقباط، هكذا يجب أن تقرّ وتعترف حتى تكون مواطنًا مصريًا صالحًا، بمعيار السلطة والجالسين على موائدها للحوار الوطني.
عليك كذلك أن تتجاهل حقيقة أنّ القصّة في مبتدأها وخبرها هي الباحث المصري باتريك، وأن تروّج وجود جماعات ضغط في مصر تستطيع أن تنتزع من السلطة ما تريد في أيّ وقت، وأنّ تضمين قرار العفو الرئاسي المحامي، محمد الباقر، ليس من قبيل أدوات الإخراج الجيد للدراما المكتوبة بلغةٍ إيطاليةٍ فصيحة.
مطلوب أيضًا أن تشكر السلطة وأصدقاءها والعاملين في خدمتها على هذه المكرمة العظيمة، وأن تصدّق متعهد موائد الحوار الوطني، وهو يعلن أنّ هذا الحوار هو صاحب الفضل في تحرير هذه المجموعة من الرهائن، بعد أن طلب ذلك فلبّى الرئيس الإنسان الطلب، قبل أن يرتد إلى الملوّحين بالانسحاب طرفهم، وأن تبصم بالموافقة على كلام حاكمدار الحوار، إذ يعلن أنه بعد العفو عن باتريك والباقر "لا يوجد حقوقي منتسب لمنظمة داخلية أو خارجية محبوس حاليًا"، وأن تقر بأنّ السيدة هدى عبد المنعم، المحامية والعضو السابق في المجلس القومي لحقوق الإنسان، ليست من الحقوقيين، ومعها المحامي عزّت غنيم، المدير التنفيذي للتنسيقية المصرية للحقوق والحريات، وكذلك المحامي محمد أبو هريرة والناشطة سمية ناصف، وعشرات من الحقوقيين والمحامين المسجونين عقابًا لهم على الدفاع عن السجناء السياسيين.
عليك أن تلغي عقلك، وتكذّب عينيك وأذنيك، وأنت ترى أنّ منطق الصفقة، هو المبدأ الأول والوحيد الذي يحدّد حركة النظام الحالي، سياسيًا واقتصاديًا، في الخارج وفي الداخل، وأنّ مسألة التنازل عن بعض الرهائن لا علاقة لها بعدالة أو نزاهة أو حسّ إنساني نبت فجأة في نظام متصحّر قيميًا .
مرّة أخرى، ولن تكون أخيرة، هذه الأوضاع الكارثية فيما يخصّ حقوق الإنسان، تجعل من الضروري تحرير مفهوم الحرية نفسه من قيود الشخصنة والهوى الإيديولوجي، فهل نحن حقًا نؤمن بالحرية على إطلاقها، في كلّ وقتٍ ولكلّ إنسان مظلوم؟.
نعم خرج بعض الرهائن، لكن قيمًا مثل الحرية والعدل والإنسانية لا تزال في السجن، لا ترى الشمس إلا بطلبٍ من جهات دولية نافذة.