عروسة المولد
لم يسرح خيالي الذي تبدَّتْ عليه ملامح الاتِّساع، منذ الصِّغَر متهيِّئًا؛ ليكون خيال قارئة نهمة، أو كاتبة لاحقًا، مثلما سرح مع عروسة المولد التي رأيتها في التلفزيون ذي الشاشة التي بلونين، الأبيض والأسود، وتخيّلتُها أجمل بكثير ممَّا هي في الواقع. وفي كلِّ مرَّة كنتُ أسرح مع البطلة الصغيرة، حين تحصل على هديةٍ من البطل الصغير؛ عروسة المولد، والتي تحتفظ بها سنوات؛ حتى تلتقي مرَّة ثانية بالبطل الذي أصبح شابًّا، وقد يتحقَّق حلمُها بالزواج منه، بعد صراع، أو لا يتحقَّق، وقد يخدعها، أو يهجرها، فالمهمُّ أنَّ عروسة المولد كانت همزة الوصل بين مشروع حبٍّ قائم، مفتوح النهاية، ولم أكن أعلم أنها كانت رمزًا للزواج، في عصر الخليفة الفاطمي، الغريب الأطوار، الحاكم بأمر الله، حيث منَع الزواج، إلا في يوم الاحتفال بالمولد النبوي، فتبارى الصُّنَّاع في تزيينها، وصنعوا إلى جوارها فارسًا يركب حصانًا، يرمز للخليفة الفاطمي، ثم أصبح فارس أحلام الفتيات، حتى يومنا هذا، على الرغم من دخول ثقافاتٍ جديدةٍ إلى الثقافة المصرية، خصوصًا.
حلمت بعروسة المولد قبل أن أزور مصر، أول مرَّة، في أوائل ثمانينيَّات القرن الماضي، وكنتُ في نحو العشرة أعوام، وكانت عروسة المولد خدعةً وفخًّا، وقعتُ فيهما، في بداية حياتي، مثلما كنتُ أتخيَّل أنَّ شوارع مصر جميلة ونظيفة، وأنني حين أركب سيَّارة أجرة سوف تنطلق أغانٍ رومانسية، أو موسيقى هادئة؛ فتملأ أذنيَّ. كنت طيِّبة كغِرٍّ ساذج؛ فلم أكن أعرف أن ذلك ما يسمَّى بالموسيقى التصويرية في الأفلام. والحقيقة أن شوارع مصر تضجُّ بالفوضى والغبار والزحام؛ حتى تكاد تلفظ أنفاسك الأخيرة، وأنت تقطع شارعًا في حيِّ العتبة الشعبيّ، أو في حيِّ إمبابة، ولكنك تقع في حبِّها، على الرغم من ذلك.
أفقتُ على حقيقة الشوارع الموحلة، والتي تلطِّخ ثيابك؛ بمجرَّد أن تتبرَّع السماء ببعض الماء، في فصل الشتاء، وأنك سوف تعود إلى البيت، منتظرًا أن تجفَّ ثيابك القليلة، على حبل غسيل، أُعيد ربطُه غيرَ مرَّة؛ لاهترائه وثقل حِمْله، ولأنك لم تحمل ملابس كثيرة من بلدك، وها أنتَ مرتعد الفرائص، أمام تلفاز صغير، موضوع فوق منضدة منخفضة، تُستخدم لتناول الطعام أيضًا، ويستعدُّ الحاضرون لمتابعة فيلم عربيٍّ قديم، يُعرَض في أيَّام الآحاد، من كلِّ أسبوع، فقط.
وعروسة المولد كانت أوَّل أسباب فقداني أحد أضراسي؛ لأني حاولت أن أتناول قطعة منها. وحين أصبحتْ واحدة في يدي صعقت من بشاعة منظرها، ورائحتها، وسوء طعمها السّكَّري المعجون، المختلط بألوانٍ رخيصة، والزخارف الملوَّنة، خلف ظهرها، والتي بدت، عن قرب، قبيحةً، مرسومةً بخطوطٍ عشوائية، علاوة على القوالب الخشبية، غير النظيفة التي تُصَبُّ فيها عجينة السكَّر؛ لتشكيل العرائس والأحصنة.
في يوم عيد المولد النبوي، بكيتُ ذات احتفال، مثلَ كلِّ الاحتفالات السنوية التي تربط الاحتفالات الدينية بإعداد الحلوى، وأنتَ لا تعرف، حتى اليوم، سبب هذا الارتباط، خصوصا في المناطق الفقيرة التي قد ترى أن مثل هذا الاحتفال المخصَّصة له طقوسٌ بعيدة عن الدين، قد تُحَقِّق لهم ربحًا طارئًا، يمنحهم أكثر من كفافِ يومهم، والسبب، في بكائي، أنَّ أمِّي اعتادت أن تُعِدَّ حلوى "العَوَّامة"، في عيد المولد النبويِّ، كلَّ عام، ولها أسماءٌ عدَّة، مثل لقمة القاضي، أو اللقيمات. وحين كانت الكُرَاتُ الصغيرة تسقط في الزيت الحامي، وأحاول إلى جوارها استخراجها بسرعة، حين تصبح ذهبية اللون؛ لكي أغرقها بالمحلول السكَّري، انفجرت إحداها في وجهي، وعَلَتْهُ حروقٌ صغيرة، تحوَّلتْ إلى فقاقيعَ مؤلمة، بعد أيام، وبكيتُ بسبب الألم والخوف من أن تنتهي إجازة نصف العام، قبل أن تختفي من وجهي، وكنت أرى أن وجهي الجميل هو جواز مروري، في كلِّ مكانٍ أذهب إليه، ويفتح لي الأبواب المغلقة، وإنها لَسذاجةٌ أيضًا، تستوجب أن ينقلب المرءُ على ظهره؛ ضحكًا عليها، وبسببها.