عروبة المستقبل
حلّت في الشهر الماضي ذكرى ثورة 23 يوليو (1952) في مصر، الثورة التي صنعت الملامح الكبرى للمشروع القومي الناصري، في كثير من أبعاده وتجلياته، وفي علاقته بالشروط والسياقات التاريخية المرتبطة به. كما مرّت قبل أيام، ذكرى الغزو العراقي للكويت (2 أغسطس/ آب 1990) بقيادة صدّام حسين وحزب البعث، بكل ما فجّر من أحداث ومآزق في العراق وفي العالم العربي. نقف في المشروعيْن معاً، أمام أفق في التاريخ وفي العمل السياسي العربي، أفقٍ كان وما يزال مرتبطاً بحاضر العرب ومستقبلهم. ونتصوَّر أن الجمع بينهما يرتبط بالروح المشتركة التي جعلت منهما معاً، أَكْثَرَ التعبيرات السياسية العربية الصانعة بصورة أو أخرى، لجوانب من أوجُه الراهن العربي وسماته.
تابعنا في الإعلام العربي بمناسبتي ذكرى الحَدَثين، تعليقات ومواقف، استعاد فيها أصحابها جوانب من مكاسب التجربة السياسية الناصرية، أدوارها في إبراز أهمية الخيار القومي في التنمية والتقدم، وجوانب أخرى أشارت إلى تحوّلات تَرِكَتِها في الأزمنة التي تلاحقت بعدها. كما تابعنا جوانب من الآثار المرتبطة بحروب صدّام وأحلامه، وهو يدخل الكويت غازياً قبل ما يزيد على ثلاثة عقود، بكل ما ترتّب عن حركته من خيباتٍ وتراجعاتٍ في العراق وفي المحيط العربي. ونُدرِج أغلب ما قرأنا بمناسبة ذكرى الثورة والغزو، ضمن القراءة المحافظة لتاريخنا القريب والبعيد، تاريخ عقائدنا السياسية وما يرتبط بها من ممارسات، فنحن ما نزال سجناء تصوّرات ومواقف، حصلت في زمنٍ مختلفٍ عن الشروط المؤطّرة اليوم حاضرنا. وأفترض أن الشروط المتصلة بحاضرنا اليوم تدعونا إلى النظر إلى تاريخنا القريب وخياراتنا القومية بطريقة أخرى. إنها تدعونا إلى مراجعة عقائد ومواقف كثيرة بشجاعة وحزم، لعلنا نتمكّن من إعادة بنائها، وجعلها أكثر قرباً من التطلعات والطموحات، التي عجزنا في السابق عن تحقيقها.
تتعاقب ذكرى الثورة الناصرية بكل ما بَنَت من مآثر في المجتمع المصري، وفي محيطيها، العربي والأفريقي، وبكل ما راكمت أيضاً، من أسئلةٍ وتحدّيات. كما تتعاقب ذكرى الغزو العراقي للكويت بكل خيباتها، وبكل الآثار التي صنعت في العراق وفي بلدان الخليج العربي، تتعاقب في زمنٍ لم يعد فيه العرب يتحدّثون لغة واحدة، ولم تعد هناك جوامع مشتركة، ولا حدود دنيا للتعاون والتضامن فيما بينهم. فقد أصبح ما يجمعهم اليوم يتمثّل في نفورهم، العام والمشترك، من كل ما يسمح بالتفكير في إمكانية تجاوز درجات الوَهَن التي تملأ أوطانهم. تركوا كل سيناريوهات التعاون والتكامل والتنمية، بطرق الأزمنة الحديثة ومقتضياتها، وأصبحت أغلبية أنظمتهم السياسية تقوم بأدوار ترتبط أساساً بمصالح القِوَى الدولية والإقليمية. نصّبوا المؤسّسات القومية والإقليمية، لتسهيل إمكانية التواصل المؤسسي المنتظم بينهم وتخلّوا عنها، تركوا طموحات شعوبهم جانباً، وانخرطوا في سياسات وأدوار لا علاقة لهما بأسئلة الحاضر العربي.
ما نزال سجناء تصوّرات ومواقف، حصلت في زمنٍ مختلفٍ عن الشروط المؤطّرة اليوم حاضرنا
عندما تابعنا مقالات الذكرى، انتبهنا إلى أننا ما زلنا نواصل التفكير في التجربة السياسية الناصرية وأدبيات حزب البعث وحروب صدّام حسين بالكلمات نفسها التي كنا نتحدّث بها قبل سنوات، علماً أن الزمن تغيَّر، كما تغيّرت أحوالنا وأحوال محيطنا الجغرافي، وتحوّل كثير من أوجُه أحوال العالم أمامنا. والعمل متواصل بعد ثورات الربيع العربي، وتحرّك روسيا في أوروبا وأفريقيا، على مزيد من التحوّل الذي لا نستطيع تقدير حدوده، إلا بالانخراط في مواجهة التحدّيات الوطنية والإقليمية والدولية، التي تجري أمامنا، فنحن جزء من مخاضات عالم تَغْمُرُنا أمواجه، حتى عندما نكون عاجزين عن مجاراته، أو نكتفي فقط بمراقبة ما يجري فيه، حيث يمكن أن نعاين بدايات تشكّل معالم عالم جديد.
نفترض أن التفكير في الحدثين المذكورين يتطلب منا مراعاة كل ما حصل في مجتمعاتنا، خلال العقود التي تلت المشروع الناصري، والعقود التي تعاقبت بعد غزو العراق الكويت، ثم غزو الولايات المتحدة وإيران العراق والمشرق العربي، فلم يعد بإمكاننا أن نفكّر في المشروع الناصري، بالطريقة التي كنّا نفكّر فيها في شعاراته، وشعارات أحزاب البعث في المشرق العربي قبل عقود. تلاحقت متغيرات عديدة، وتبلورت تحدّيات جديدة في مجتمعاتنا وفي المحيط الإقليمي العربي، إضافة إلى مجمل التحوّلات الجارية في العالم. يدعونا ما أشير إليه هنا إلى التفكير بطريقة أو أخرى، في مستقبل العروبة والأدوار المرتقبة منها في عالم جديد.
ما زلنا نواصل التفكير في التجربة السياسية الناصرية وأدبيات حزب البعث وحروب صدّام حسين بالكلمات نفسها التي كنا نتحدّث بها قبل سنوات
يدفعنا التفكير في الراهن العربي بكل تحدّياته الجديدة، وبكل خيباته ومآزقه وحروبه، وبالثورات التي غطّت أرضه وسماءه قبل أزيد من عقد، وكذا بكل انقساماته القائمة والمنتظرة، إلى مزيد من التمسّك بالقيم الكبرى لمشروع العروبة، مشروع استكمال التحرير والتحرّر والتقدّم، إنه يدفعنا إلى مزيد من التفكير في المشروع العروبي خيارا سياسيا لم نُجَرِّبه بعد، من أجل بناء عالم جديد قادر على الاستفادة من تجاربه وأخطائه. وإذا كان من المؤكّد أن التجربة الناصرية شكّلت، في تاريخنا المعاصر، محاولة سياسية إيجابية في مسلسل بناء هذا المشروع، فإنه لا ينبغي أن نتصوّر أن الارتدادات التي حصلت بعدها زمني أنور السادات وحسني مبارك وما بعدهما، قد أنهت المشروع القومي العربي. كما أن أدبيات "البعث"، رغم مساهمتها في تأسيس جوانب عديدة من أدبيات المشروع القومي العربي في القرن العشرين، فإنها راكمت، في الآن نفسه، أخطاء كثيرة في الفكر وفي الممارسة، الأمر الذي ركَّب كثيراً من مظاهر فشل المشروع القومي وتعثّره.
لا نستهين بالجهود السياسية التي تبلورت في تاريخ تشكّل المشروع القومي العربي وتطوّره، خلال النصف الثاني من القرن الماضي، إننا نفكّر أساساً في الذهول السائد اليوم في حاضرنا. ننطلق في ذلك من إيماننا بأن المشروع القومي ليس مُلكاً لمدرسةٍ فكريةٍ أو تيار سياسي بعينه. إضافة إلى ذلك، لم يعد في وسع الأفكار القومية الناشئة في خمسينيات القرن الماضي وستينياته أن تستوعب أسئلة حاضرنا وتحدّياته. إننا نفكر في مآل المشروع القومي العربي، ونتصوَّر أن حاجتنا اليوم لهذا المشروع تضاعفت، ويلزمنا اليوم في غمرة الإشكالات التاريخية والسياسية التي تعرفها مجتمعاتنا، أن نُعيد النظر في كثير من أصوله ومفاهيمه لتحويله، مجدّداً، إلى مشروع حامل لعروبة المستقبل، عروبة استكمال التحرير وتعميم التحديث والدمقرطة.