عرب ما بعد السنوار ونصر الله
على بعد بضعة أشهر من استشهاد يحيى السنوار وحسن نصر الله، وقبلهما إسماعيل هنيّة، يبدو النظام العربي كأنه قد تخلّص من ذلك النموذج المكروه، الكاشف عن مدى تهافت الحكومات العربية وضحالتها أمام شعوبها، التي كانت تتنسّم بعض الكرامة من خطاب الزعماء الثلاثة الحقيقيين ومواقفهم.
لم يبق أحد في بلاد العرب يتحدّث العربية الصحيحة بمواجهة تيار كاسح من الهيمنة الصهيونية على الخطاب السياسي الخاص بالمنطقة، سوى زعيم جماعة أنصار الله، عبد الملك الحوثي، في اليمن، يتكلّم لغة المقاومة ويطبّقها عملّاً بمواصلة إسناد غزّة بالسلاح، متمسّكاً بمقاربته المبدئية للصراع مع مشروع صهيوني غرضه تركيع المنطقة كلها، ولذلك، تعلن تل أبيب أنّ خطوتها المقبلة هي القضاء على آخر نبض عربي مقاوم في اليمن، ولا تخفي استعدادها بخطط جاهزة لتدمير اليمن، على غرار ما جرى مع غزّة ولبنان وسورية، بحيث لا يبقى للعرب أيّة خطورة على الكيان الصهيوني، إذ يعيد صياغة أوضاع المنطقة جغرافيّاً وحضاريّاً، من دون أن يجرؤ أحد على رفع رأسه أو صوته أو إصبعه بالاعتراض.
لم يعد الصهاينة وهم يعيشون حالة النصر الكبير يخفون أهدافهم وأطماعهم في الأراضي العربية، ولم يعودوا في حاجةٍ إلى المواربة أو تغليف الأهداف الاستراتيجية بأخرى تكتيكية مؤقتة. وفي ذلك بدأت الدوائر العسكرية والسياسية للاحتلال في البحث عن اسم جديد لمنطقة جبل الشيخ التي أضافتها إسرائيل لحصّتها من الأراضي السورية المحتلة، لتتحقّق مقولة "إسرائيل دولة بلا حدود"، كما كتب معلّق شؤون الشرق الأوسط في صحيفة هآرتس العبرية، تسيفي بارئيل، موضحاً أن "إسرائيل دولة بلا حدود، وتتضخّم (تصبح سمينة) داخل منطقة جغرافية مرنة تمتد وتتوسّع باستمرار. الآن أصبحت غزّة جزءاً منها، وسيحصل جبل حرمون (الشيخ) السوري، قريباً على اسم مناسب، وربما نحصل أيضاً على شريط صغير في التوسّع الشمالي، الذي لا يزال يُسمى جنوب لبنان".
يجري ذلك كله من دون أن يصدر عن العرب إلا بعض الهمهمة وهمسات الاستجداء على استحياء، وهي حالة جديدة تكرّست بعد الاحتفال بالتخلّص من رموز النموذج المضاد، المقاوم، الذي يمثله الشهداء نصر الله وهنيّة والسنوار، وبذلك يكون العرب الرسميون قد تراجعوا خطوات عن حالة المعارضة اللفظية للاحتلال، فلم يعد لديهم سوى التوسّل، بعد أن كان بمقدورهم أن يسلكوا بوصفهم حزباً معارضاً للاحتلال، على النحو الذي ظهروا عليه بعد قمّتين عربيتين في العاصمة السعودية، رأينا خلالهما أن "مؤسّسة القمّة العربية" أو قل جامعة الدول العربية، باتت لا ترى في نفسها أكثر من كيانٍ معارض، حزباً كان أم حركة أم تياراً، يرفع عقيرته بالاحتجاج الخجول على سياساتِ العدو الصهيوني، على نحو أقل بكثير مما تفعله التظاهرات العارمة التي تشهدها المدن والعواصم الأوروبية، بل داخل الولايات المتحدة نفسها، وداخل مجتمع الاحتلال أيضاً، من دون أن تتوقف مذابح الإبادة الجماعية أو تهدأ.
حتى الخطابة الزاعقة بوجه الاحتلال لم تعد ممكنة، ولن تجدها في قمم عربية أخرى قد يكون مسموحاً انعقادها مستقبلاً، كما كان الأمر في الانعقاد في الرياض أخيراً، حين استولى المتكلمون على شعارات المتظاهرين الذين يتعرّضون للقمع والتنكيل، وصنعوا منها خطباً في مهرجان الفصاحة. وفي ذلك المضمار كان المخلوع بشّار الأسد هو الأشطر في مادة البلاغة وسخونة الهاتف، خصوصاً وهو يقول، مثل شاب ثائر يرتدي الكوفية الفلسطينية "أما عن قمتنا فمنذ عام مضى التقينا وعبرنا، أدنّا واستنكرنا، ومنذ عام والجريمة مستمرّة، فهل نلتقي اليوم لكي نستنسخ الماضي الراحل وأحداثه، أم لنبدل في مسار المستقبل القادم وآفاقه، هل نغضب مرّة أخرى؟ هل ندين؟ هل نناشد المجتمع الدولي أم نقاطع؟ وهو أضعف الإيمان أم ماذا؟ ما هي خطتنا التنفيذية؟".
وباقي الحكاية معروف، إذ خرج نتنياهو يتوعّد بشّار بالنهاية، بالقتل أم بالخلع، ثم راح يوسّع من نطاق ضرباته في عمق الأراضي السورية، من دون أن يجرؤ بشّار الأسد على الرد بإلقاء حجر واحد على طائرة للعدو أو بكلمة واحدة، حتى طارت رأسُه أمام الجميع، فارتدعت فرائص كلّ الذئاب الأخرى، وانتحلت شخصيات الحملان.