عربة الميلودي شغموم

04 يناير 2021
+ الخط -

فجأة، توقفت عربة الكاتب المغربي الرائد، الميلودي شغموم، عن مواصلة الالتقاء بأصدقائه المقرّبين، وهم طائفة من أكاديميين وكتّاب وفنانين، من أبرزهم حسن بحراوي، وسعيد بنكراد، ومدير المكتبة الوطنية في الرباط، إبراهيم أغلان، ومن الجيل الجديد يوسف توفيق. وطبعا من دون نسيان وجوهٍ لطيفةٍ أخرى عديدة، كانت تحلّق حوله من مختلف أطياف أنتلجنسيا الثقافة في الرباط. ولم يكن هذا هو التوقف الأول له، إذا استحضرنا (عمليا) توقفه عن الكتابة قرابة عشرين عاما. كان قبلها مشغولا، بصورةٍ متواترةٍ، بالتأليف والبحث والترجمة والإبداع، وتجريب عوالم جديدة وسبْرها، وإعمال الخيال في شخوصٍ وأحداثٍ وأمكنة. ولكنه في هذه الأيام انقطع نهائيا حتى عن الالتقاء بالأصدقاء، وذلك بسبب المرض الذي فرض عليه العزلة، ثم جاءت جائحة كورونا وفاقمتها. وحين أسأل أصدقاءه ورفقاءه القدامى عن صحته، يأتون بأخبارٍ متضاربة.
بصفته أحدَ أهمّ طلبته المتميّزين، ناقش الميلودي شغموم الدكتوراه بإشراف محمد عابد الجابري، المفكر الكبير الذي بصم بفكره أجيالا في المغرب وكامل ربوع الوطن العربي. ثم عمل شغموم أستاذا جامعيا، فعميدا لكلية الآداب والعلوم الإنسانية في مكناس. وفي خضمّ ذلك مترجما (وناقدا أدبيا) وكاتب قصص وروايات. ومنذ مجموعته القصصية "أشياء تتحرّك" التي استهلّ بها مساره الإبداعي، في 1972، تواصلت رحلة عطاءٍ لا ينضب، أبدع خلالها أعمالا قصصية وروائية وفلسفية وترجماتٍ، عرف بعضُها طريقه إلى النشر في مجلات رائدة؛ مثل "آفاق" و"أقلام" وغيرهما.
رحلة إبداعية تواصلت بعد مجموعته القصصية بروايتي "الضلع" و"الجزيرة" (1980)، ثم عاد إلى القصة عبر "سفر الطاعة"، ثم رواية "الأبله والمنسية وياسمين" التي حظيت بقراءات متعدّدة، على سبيل المثال، كانت الأولى في ترتيب كتاب "القراءة والتجربة"، وهو أول كتاب يصدره الباحث والأكاديمي سعيد يقطين عام 1985. ثم أصدر الميلودي رواية "عين الفرس" في 1988. وأعقبها بـ"مسالك الزيتون" في (1990)، وبعد خمس سنوات، أصدر في بيروت روايتَي "شجر الخلاطة"، و"خميل المضاجع". وبعد خمس سنوات أخرى، أبدع رواية "نساء آل الرّندي"، ثم بعد سنة رواية "الأناقة".
ولأنه مبدع متعدّد، لم تتوقف عطاءاته في جنسي القصة والسرد، بل تخلّلت إبداعاته في هذين الجنسين السّرديَين مجموعة من الدراسات، لعلّ أهمها "الوحدة والتعدد في الفكر العلمي الحديث (1984)، و"المتخيل والقدسي في التصوف الإسلامي (1991)، و"المعاصرة والمواطنة.. مدخل إلى الوجدان" (2000).
وموازاة مع ذلك، اجترح ترجمات عديدة متميزة، من أبرزها "قيمة العلم" لهنري بوانكاري، في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وبالضبط في 1982، وهي السنة التي شهدت حصوله على دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة من كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط، قبل أن ينال دكتوراه الدولة من الكلية ذاتها.
الميلودي مبدع، عرَف جيدا كيف يمزج بين أبحاثه الأكاديمية والإبداعية، ما أتاح له خياراتٍ واسعة، لأن يُنوّع طرائق السّرد في أعماله الرّوائية والقصصية (وإن لم يكتب غير مجموعتين قصصيتين). وربما كان من أوضح الأمثلة على ذلك، روايته الأخيرة "الأناقة" (2001)، والتي لا تُخطئ فيها عين القارئ المُتنبّه نهلها من "ثقافة الذوق"، من خلال مؤلفه "تمجيد الذوق والوجدان".
فهم أن المبدع محكوم بالتّكرار، بما أن هناك دائما ثوابتَ يستريح إليها تظلّ تجذبه. لكنه حاول، ما أمكنه، أن يتلافى ذلك، من خلال تنويع مناهل إبداعاته الأدبية التي تمتح من التجريب، وتعكس تأثره بالفكر الفلسفي الذي كان مدار تخصّصه، وأنجز فيه بحوث تخرّجه الجامعية. وقد قال، في مقابلة صحفية معه (أجرتها معه سعيدة شريف) إن أعماله الأكاديمية، وتخصّصه في الدراسة للفلسفة، أفاداه كثيرا في أعماله الإبداعية، سيما حين اشتغل على الخيال والبناء في الإبداع. ومن دون أن ننسى تأثره بالمحكي العربي القديم، والأدب العجائبي، خصوصا ألف ليلة وليلة. نتلمس ذلك بوضوح من خلال مجموعة من أعماله السردية، أبرزها روايتاه "كليلة ودنيا" و"عين الفرس" المقرّرة في المرحلة الثانوية من التعليم في المغرب. ولذلك، الكتابة عن شخصية الميلودي شغموم كتابة عن أحد الكتاب العرب الكبار المغمورين، ويستحقون بحق الالتفات إلى منجزهم الأدبي الثري والمتعدّد.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي