09 نوفمبر 2024
عبد الله الحامد أم منصور خالد؟
ليس الغرض من العنوان أعلاه المفاضلة بين الإصلاحي والحقوقي السعودي عبدالله الحامد، الذي قضى في السجن في بلده عن 70 عاما، يوم 24 إبريل/ نيسان الحالي، والسياسي والدبلوماسي السوداني منصور خالد، الذي توفي عن 89 عاما، يوما قبل وفاة الحامد. كما أن العنوان الاستفهامي هذا لا يعني أن السطور التالية ستعمد إلى المقارنة بين تجربتي الرجلين، فالاختلافات بينهما كبيرة. وإنما الوجهة هي الإضاءة، قليلا، على النموذجين المختلفين اللذين يتمثلان في الحامد وخالد، رحمهما الله. نموذج المثقف الذي كان عليه داعية الحريات السعودي، والنموذج الآخر للمثقف الذي كان عليه الوزير الأسبق والكاتب السوداني، فللاثنين صفة المثقف، لمّا اشتغلا في الشأن العام، ونشطا في الجهر بآرائهما، وشاركا في حضور فرداني ومؤسساتي، وكتبا مؤلفاتٍ لها قيمتها في الذي خاضت فيه. وليس تزامن وفاة الاثنين ما يغري بمحاولة استكشاف النموذجيْن، وإنما الدرس المهم الذي يعطيانه في موضوعة المثقف ودوره.
ظل عبد الله الحامد زاهدا في الأضواء، اختار مسافته الخاصة من السلطة، لمّا وجد لنفسه دورا نقديا إصلاحيا تغييريا، في السعودية، بالكلمة والعمل المدني السلمي. كان يقول بالمواطنة، وبملكية دستورية في بلده، ويجهر بمطالباتٍ بالإصلاح في مؤسسة الحكم، من دون أي نزعة انقلابية، ولا ثورية مغالية، غير أنه، في الوقت نفسه، لا يوصف مثقفا محافظا. كأنه كان يدلّل على ما ذهب إليه عزمي بشارة، في دراسته "المثقف والثورة"، أن المثقف الإصلاحي في الدول التي تعيش تحت الاستبداد يجد نفسَه بين خياريْن، أن يكون مثقفا محافظا أو ثوريا. ولأنه لا وجود لمثقفٍ محافظٍ في العالم العربي، إذ يتحول إلى مثقف تبريري للاستبداد، ولأن الدولة العربية أصلا (بحسب بشارة) لم تتح مجالا للمثقف المحافظ، فإن لصاحب هذه الكلمات أن يقول إن عبدالله الحامد وجد نفسه مثقفا إصلاحيا ثوريا، لأن البيئة العامة التي زاول فيها نشاطه المدني لم تأذن له أن يكون محافظا، فاستقبلته السلطة باعتقاله غير مرة. ومن شمائله مثقفا رأى لنفسه دورا في مجتمعه السعودي، المحافظ طبعا، أنه حرص، في بنائه، مع رفاقٍ له، شبكة مؤسّسية لعمل مدني ناهض وناشط، على المشترك والجامع والعام، فظلت قويةً ومنظورةً جسور التواصل بينه وبين قوميين وليبراليين ويساريين.
كان منصور خالد مثقفا كبيرا، وصاحب فكر لا شك، ليس فقط لدراسته القانون في الولايات المتحدة وفرنسا، وإنما أيضا لدرايته العميقة بتاريخ السودان وأنساقه الاجتماعية، ولمعرفته الواسعة في الآداب والفنون، العربية والأفريقية والأجنبية. وقد مكّنه عمله في الأمم المتحدة وبعض هيئاتها، ثم توليه وزارة الخارجية في بواكير حكم الرئيس جعفر النميري، من أن يحرز معرفةً واسعة بالعالم. وعلى ما كان فيه من ميول ظاهرة إلى الليبرالية والمدنية والديمقراطية، إلا أن شغفه بالسلطة وأضوائها ومنافعها تغلّب، في شخصه، على هذه الميول في جوانحه، فلم يرَ حرجا في مناصرة النميري في البطش بالشيوعيين السودانيين، بالإعدامات وغيرها، كما لم تعن ليبراليته شيئا وهو يصوّب، بلغة استئصالية، ضد الإسلاميين وخصومٍ أيديولوجيين وسياسيين له. وكان شديد القرب من النميري، قبل أن ينفضّ عنه (أو العكس؟)، فيغادر إلى حمى عسكري آخر، هو زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان، جون قرنق، بصفة مستشار، وقد زين المثقف الحاذق للعسكري المليشياوي أوهاما غير قليلة، وساعده في تسويق خطابٍ مراوغ عن "تحرير السودان" وعن الوحدة والانفصال. وكان ظاهرا، في الأثناء، أن المتمرّد الجنوبي إنما أراد الاستفادة من صفة منصور خالد شماليا، ومن علاقاته في الولايات المتحدة والغرب، وأغدق عليه المال وأسباب الرفاهية ومتع الأسفار، وكان صاحبنا صاحب مزاج، وذوّاقةً، ويُؤْثر صورَته مُترفا. وفي الأثناء، واظب على تأليف كتبه التي خصّ واحدَها لنقد النخبة السودانية. حتى إذا صار الاتفاق بين النظام في الخرطوم وحركة قرنق، ارتضى خالد أن يكون، ضمن حصةٍ متفقٍ عليها، في موقع مستشار للرئيس عمر البشير، وأوفده الأخير في غير مهمةٍ دبلوماسية.
المثقف، عارفا وخبيرا ومتمكّنا من أدواته، وصاحب خطاب مدني وديمقراطي جذّاب، والعمل، في الوقت نفسه، في أي سلطةٍ بأي ثوب، هذا نموذج .. وعبد الله الحامد نموذجٌ آخر مغاير.
كان منصور خالد مثقفا كبيرا، وصاحب فكر لا شك، ليس فقط لدراسته القانون في الولايات المتحدة وفرنسا، وإنما أيضا لدرايته العميقة بتاريخ السودان وأنساقه الاجتماعية، ولمعرفته الواسعة في الآداب والفنون، العربية والأفريقية والأجنبية. وقد مكّنه عمله في الأمم المتحدة وبعض هيئاتها، ثم توليه وزارة الخارجية في بواكير حكم الرئيس جعفر النميري، من أن يحرز معرفةً واسعة بالعالم. وعلى ما كان فيه من ميول ظاهرة إلى الليبرالية والمدنية والديمقراطية، إلا أن شغفه بالسلطة وأضوائها ومنافعها تغلّب، في شخصه، على هذه الميول في جوانحه، فلم يرَ حرجا في مناصرة النميري في البطش بالشيوعيين السودانيين، بالإعدامات وغيرها، كما لم تعن ليبراليته شيئا وهو يصوّب، بلغة استئصالية، ضد الإسلاميين وخصومٍ أيديولوجيين وسياسيين له. وكان شديد القرب من النميري، قبل أن ينفضّ عنه (أو العكس؟)، فيغادر إلى حمى عسكري آخر، هو زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان، جون قرنق، بصفة مستشار، وقد زين المثقف الحاذق للعسكري المليشياوي أوهاما غير قليلة، وساعده في تسويق خطابٍ مراوغ عن "تحرير السودان" وعن الوحدة والانفصال. وكان ظاهرا، في الأثناء، أن المتمرّد الجنوبي إنما أراد الاستفادة من صفة منصور خالد شماليا، ومن علاقاته في الولايات المتحدة والغرب، وأغدق عليه المال وأسباب الرفاهية ومتع الأسفار، وكان صاحبنا صاحب مزاج، وذوّاقةً، ويُؤْثر صورَته مُترفا. وفي الأثناء، واظب على تأليف كتبه التي خصّ واحدَها لنقد النخبة السودانية. حتى إذا صار الاتفاق بين النظام في الخرطوم وحركة قرنق، ارتضى خالد أن يكون، ضمن حصةٍ متفقٍ عليها، في موقع مستشار للرئيس عمر البشير، وأوفده الأخير في غير مهمةٍ دبلوماسية.
المثقف، عارفا وخبيرا ومتمكّنا من أدواته، وصاحب خطاب مدني وديمقراطي جذّاب، والعمل، في الوقت نفسه، في أي سلطةٍ بأي ثوب، هذا نموذج .. وعبد الله الحامد نموذجٌ آخر مغاير.