عام وروسيا لم تنتصر وأوكرانيا لم تُهزم

26 فبراير 2023
+ الخط -

لم يكن في مخيلة صانع القرار العسكري والسياسي في موسكو أن أوكرانيا قادرة على الصمود أمامها عاما طويلا من الحرب، خصوصاً أن الخطط والخيارات وتقارير الاستطلاع وتقارير الاستخبارات التي قُدّمت إلى الرئيس بوتين، تحدّثت عن أيام قليلة، وتحسم فيها عملية إسقاط القيادة السياسية الأوكرانية في كييف، مع سحق الجيش الأوكراني وتدمير مقدّراته، ومن ثم القضاء على "النازيين الجدد"، وفق مصطلحات موسكو، لكن تفكّك منظومة القيادة والسيطرة في الجيش الروسي، وسوء أداء قطعات الدعم اللوجيستي، وغياب التعاون بين أنواع القوات المسلحة الروسية، مع تشتت عمليات الدعم والمرافقة النارية، إضافة إلى سوء تقدير الروس قدرات الجيش الأوكراني، وعدم إيلاء الأهمية للدعم الغربي الذي يمكن أن يُقدّم للجيش الأوكراني، وأخيراً الجهل التام بمسرح الأعمال العسكرية في ميادين أوكرانيا، جعلت من الروس المساهم الأكبر في فشلهم، وفشل تنفيذ المهام الموكلة لجيشهم، رغم امتلاكهم تفوّقاً عسكرياً وصل إلى ثلاثة أضعاف في أعداد الدبابات، وأربعة أضعاف في عدد الجنود، و11 ضعفا في أعداد المقاتلات الجوية، وسبعة أضعاف في أعداد الحوّامات القتالية، و10 أضعاف في عمليات الإنفاق العسكري لوزارة الدفاع الروسية مقابل أوكرانيا.

في المقابل، حتى الأوكرانيين، لم تكن في تقديراتهم القدرة على الصمود لكل الفترة السابقة، والقدرة بمراحل معينة من التفوّق على الجيش الروسي، واستعادة مناطق كانت قد سقطت بأيدي أعدائهم، لكن استماعهم لنصائح حلفائهم في الغرب من الابتعاد عن الحرب الكلاسيكية، والاعتماد على قتال الشوارع بعد تشكيل بنية دفاع منضبطة حول المدن، والاستفادة من منظومات الدعم الغربي المحمولة على الكتف، سواءً كانت المضادّة للدروع أو المضادّة للطائرات، مع تحلّيهم بإرادة قتال عالية وعقيدة قتال منضبطة، إضافة إلى الاستثمار الكبير في مسرح الأعمال القتالية الذي يتقنه عادة أصحاب الأرض، ساهم ذلك كله في تأمين صمود دفاعي أسطوري قاده الرئيس فولوديمير زيلينسكي مع جنرالاته على بوابات المدن الأوكرانية.

عام تكشّفت معه ثغرات كبيرة في قدرات حلف شمال الأطلسي، والتردّد الذي طاول مفاصل القرار في بداية الحرب

مرّت الحرب الروسية على أوكرانيا بأربع مراحل وتنتظر الخامسة، فمن مرحلة الاجتياح التي أراد من خلالها بوتين سحق القيادة الأوكرانية، لكنها فشلت، وتراجعت القوات الروسية التي حاولت دخول العاصمة كييف، بعد خسائر فاقت قدرات الروس على التحمّل، إلى مرحلة الانكفاء الروسي نحو الشرق، والاستعاضة عن إسقاط العاصمة بقطع الشرايين الاقتصادية الأوكرانية، عبر السيطرة على كامل شواطئ بحر آزوف، وحثّ الخطى للوصول إلى الميناء الأهم في أوديسا، لتحقيق إنجازات عسكرية بالمشاركة مع الحلفاء في دونباس لحفظ ماء وجه بوتين، لكن الهجوم المعاكس الذي شنّه الجيش الأوكراني في المرحلة الثالثة، واستعاد فيه جبهاتٍ واسعة في خاركيف وخيرسون، أفسد النصر الجزئي الروسي في الجنوب والشرق، لينتقل الطرفان إلى المرحلة الرابعة التي امتازت بالمناوشات وشبه توازن الجبهات، مع تحضيرات لمعركة الربيع التي يحشد لها الطرفان حاليا، ويؤكّد فيها الروس أنها ستكون المرحلة الأهم في الحرب في أوكرانيا، والتي ستتحقق فيها معظم الأهداف الروسية، رغم كل الدعم الغربي للجيش الأوكراني.

عام على الحرب تكشفت فيه حقيقة الجيش الروسي المتعب بقيادة فاسدة، وعتاد غابت عنه الصيانات والتحديثات اللازمة، مع مشاريع وتدريبات صُرفت لها أموال باهظة من خزينة وزارة الدفاع الروسية، لكن فساد جنرالات بوتين جعل تلك المشاريع تنفّذ على الأوراق والخرائط فقط، وظهرت نتائجها الوخيمة في مجريات الحرب على الساحة الأوكرانية، وظهر معها زيف معظم التقارير العسكرية التي كان يرفعها قادة أنواع القوات المسلحة وقادة الوحدات الميدانية للقيادات العسكرية والسياسية العليا في موسكو، والتي كانت تتضمّن ما يُطرب آذان بوتين ووزرائه أكثر مما تعكس الواقع الحقيقي الكارثي الذي يُعاني منه الجيش الروسي.

رغم كل الخسائر التي أفرزتها الحرب المتهورة لبوتين، إلا أنه ليس في وارد التراجع عنها، لأنه يدرك أن أي خطوة إلى الخلف ستقرّب من نهايته السياسية، وأوروبا أيضاً

عام كامل تكشّفت معه ثغرات كبيرة في قدرات حلف شمال الأطلسي، والتردّد الذي طاول مفاصل القرار في بداية الحرب، ومن ثم تكشفت نقاط ضعف كثيرة في عملية تحصين الدفاع عن دول الحلف، إضافة إلى قلة مساهمة الأعضاء في المدفوعات المالية التي تُقدّم لقيادة الحلف، فانصرف بورشة عمل مكثفة في محاولة لتفادي السلبيات وإصلاحها عبر قرارات وإجراءات جديدة تعيد تنظيم معظم الخطط الدفاعية للحلف.

تأثيرات الحرب المدمرة على أوكرانيا، والتي تجاوزت، وفق بعض التقديرات، 750 مليار دولار، خسائر في البنية التحتية، لم تكن الهمّ الأكبر للغرب، بعد أن تسبّبت أزمة الطاقة والعقوبات على روسيا في ارتفاع الأسعار، وعجز المواطن الأوروبي عن سداد فواتيره الشهرية، وضعف القدرة الشرائية بعد الارتفاع الكبير في الأسعار الذي طاول أكثر المواد في السوق الأوروبية، يضاف إلى ذلك اضطرار الدول الأوروبية لتقديم ما يزيد عن 67 مليار دولار لأوكرانيا مساعدات عسكرية، إضافة إلى حوالي 46 مليار دولار مساعدات اقتصادية، يضاف إلى تلك المبالغ تخصيص الأوروبيين حوالي 34 مليار دولار لتأمين حياة أربعة ملايين لاجئ أوكراني أصبحوا على الأراضي الأوروبية. وتذكر تقارير أن الحرب تسببت في عامها الأول بخسائر تفوق 2.8 تريليون دولار.

عام من حرب أراد منها بوتين تفكيك حلف الناتو فزاد من تعداد أعضائه، بعد أن قرّرت السويد وفنلندا (وغيرهما) الانضمام إليه. وأراد منها بوتين فكّ عرى الوحدة الأوروبية الأميركية فزادها التصاقاً، وزاد من التعاون (العسكري والاقتصادي) الأوروبي مع الأميركان، في وقت خسرت فيه خزائن الرئيس بوتين 340 مليار دولار من التبادل التجاري مع الغرب، وخسرت أيضاً 136 مليار دولار استثمارا لرجال أعمال روس في أوروبا، مع خسارة مائة مليار دولار كانت تدخل الخزينة الروسية نظراً لاعتماد أوروبا قبل الحرب على 40% من احتياجاتها من الطاقة على الغاز الروسي و30% من النفط.

يسعى طرفا الحرب إلى التفاوض من موقف قوة من خلال إنجازات تتحقّق على ميادين القتال، وهذا لم يحصل

رغم كل الخسائر التي أفرزتها الحرب المتهورة لبوتين، إلا أنه ليس في وارد التراجع عنها، لأنه يدرك أن أي خطوة إلى الخلف ستقرّب من نهايته السياسية، وأوروبا أيضاً. وبرغم كل ما تسببت فيه تلك الحرب من خسائر في ميزانياتها المالية، لكن قرار إنهاء الحرب خارج سيطرتها بعد أن استفردت به واشنطن التي كانت صاحبة الأرقام الأكبر في عمليات الدعم العسكري والاقتصادي لأوكرانيا، وحتى طرفا الصراع لا توجد لهم رغبة واضحة في وقف تلك الحرب، لأن الطرفين يسعيان إلى التفاوض من موقف قوة من خلال إنجازات تتحقّق على ميادين القتال، وهذا لم يحصل، فلا أوكرانيا طردت الروس من أراضيها، ولا الروس هزموا الأوكران.

يقول الروس إنهم دمّروا 75% من القدرات العسكرية للأوكرانيين، مع خسائر بشرية هائلة في صفوف جيشهم. وتتحدّث كييف عن 180 ألف قتيل من الجيش الروسي. ومع ذلك، الطرفان مصرّان على استمرار القتال، ويستعدّان لمعركة الربيع التي يتوعد فيها بوتين بحسم تلك الحرب والانتصار، ليس على كييف بل على الغرب، لأن إعلامه وتصريحات معظم مسؤوليه تعتبر أن الحرب هي مع كامل دول حلف الناتو، وإنْ بشكل غير مباشر.

جاءت زيارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، كييف مؤشّراً على استمرار الدعم الغربي لأوكرانيا، ورسالة غربية تقول إن الدعم الغربي الذي اقتصر سابقاً على بعض منظومات الصواريخ التكتيكية المحمولة على الكتف من نوع جافلين وستينغر، أو عبر منظومات باتريوت وهيمارس وناسامز وإم777 وهاوتزر، إضافة إلى صواريخ هارم المضادّة لأنظمة رادارات الدفاع الجوي، ليست نهاية المطاف، وأن التحفظ الأميركي على دعم الجيش الأوكراني بمنظومات قتالية هجومية قد يُزال. وفي الوقت نفسه، يدرك الغرب والرئيس بايدن تماماً أن حشر الرئيس بوتين في زاوية الهزيمة قد يجعل من استخدام السلاح النووي خياراً وحيداً لبوتين للهروب من ذلّ الهزيمة.

أحمد رحال
أحمد رحّال
عميد ركن سوري معارض، خبير عسكري