عام البرابرة في سورية
يمكن اعتبار عام 2014 الأكثر دموية في مسار العنف الذي استخدمه النظام ضد الثورة والشعب في سورية. وعلى الرغم من أن الأعوام التي سبقت لم تكن أقل هولاً، وخصوصاً 2013 الذي شهد إقدام النظام على استخدام الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين في غوطتي دمشق، فإن العام المنصرم كان الأكثر جنوناً وتوحشاً وبربرية بحق المدنيين العزّل، حيث وصل عدد غارات القتل والترويع البرميلية، في بعض الأيام، إلى أكثر من عشرين غارة على مناطق متفرقة، تمتد من دير الزور، مروراً بالرقة وحلب وحماه وريف دمشق، وصولاً إلى ريف درعا. وتجاوز عدد الضحايا من المدنيين في بعض الأيام 200 قتيل.
اتّسم العام الذي انصرف بأن النظام السوري تصرف من دون رادع، في ظل صمت دولي وتغطية إيرانية روسية. ولذا، أطلق لنفسه العنان، فأبان عن بربرية ليست معهودة، ولا مثيل لها في الحروب التي شهدها القرنان الحالي والذي سبقه، وأهم مزايا هذه البربرية، أولاً تقتيل المدنيين. وتشير وقائع الغارات البرميلية على ريف حلب خصوصاً، أنها تتعمّد استهداف التجمعات البشرية ذات الكثافة العالية، من أجل إلحاق أكبر أذى بالسكان، الأطفال والنساء والرجال والشيوخ، الأسواق والمساجد وأفران الخبز والمستشفيات، أي كل ما هو محرّم في أخلاقيات الحروب بين الأعداء. والمظهر الثاني للبربرية هو حصار التجويع ومنع دخول الغذاء والدواء، بما في ذلك قطع الماء والكهرباء والوقود عن بلدات بكاملها، مثل داريا والمعظمية في ريف دمشق، بالإضافة إلى الإعدامات الجماعية والسجون والاعتقالات وحالات الاغتصاب التي تعرّضت لها نساء سوريات، وهناك منظمات، مثل الشبكة السورية لحقوق الإنسان، وثّقت حالات لا شبيه لها في النزاعات الأهلية، حتى تلك التي حصلت بين القبائل البدائية من آكلي لحوم البشر في مجاهل أفريقيا.
أما الوجه الثالث للبربرية فهو التهديم. وبالإضافة إلى نزعة القتل المتأصلة في الذين يقفون وراء قرارات الاستهداف المنهجي للمدنيين، هناك نزعة تدمير العمران، وهي لا تفرّق بين مسجد وفرن خبز وسوق ومستشفى ومدرسة ومواقع تراثية، الأمر الذي يكشف عن خلفية همجية، لا تحترم قيمةً، ولا تقف عند رادع، وقد صار واضحاً أن النظام يتجاوز تنفيذ تهديد أطلقه، في الأيام الأولى للثورة، بأنه سيحوّل سورية إلى تراب، وهذا ما حصل، حتى الآن، في بعض المدن التي تم تدمير معظمها، مثل دير الزور وحلب وحمص وريف دمشق.
يستحق العام 2014 أن يوصف، على الصعيد السوري، بعام عودة الوحوش من الغابات. مأساة السوريين لا يمكن توصيفها لأنها تفوق الكلام، وتستعصي على الخيال، وليس من الإنصاف الاكتفاء بقوانين العدالة من أجل محاسبة هؤلاء القتلة في المستقبل، بل يجب أن يوضعوا في أقفاص، ويعرضوا في حدائق الحيوان، كنماذج لافتراسيين جدد، لم تعرف سلالة الوحوش مثيلاً لهم. وعلى العموم، لا يمكن تفسير استهتار النظام بأرواح السوريين وتاريخهم الحضاري العمراني وممتلكاتهم، إلا من منطلق الاحتقار الذي مارسه بحقهم، طوال أربعة عقود من حكمه، وهو نتيجة تراكم موروث من الانحطاط والعنف، تربّت عليه أجيال النظام منذ مجازر حماه وحلب في مطلع ثمانينات القرن الماضي. يومها تمت تسوية أحياء سكانية كاملة فوق رؤوس ساكنيها في حماه. ومنذ ذلك الحين، صارت تربية أجهزة النظام قائمة على هذا الأساس، وآخر ما تفكر به هو حياة الناس. ومهما كانت مآلات النزاع، ستصبح هذه السلوكيات مجالاً خصباً للدراسات الاجتماعية والسلوكية. وبالتأكيد، لن تقف الدراسات عند الأساليب المتبعة في علوم النفسية المَرَضيّة، بل سوف تستدعي استنباط أساليب وطرائق جديدة، تذهب حتى ظروف انتقال هذه الحثالة من الغابات إلى المدن.